الوضع الدولي :
يستمر الوضع الاقتصادي العالمي في التراجع ، فبعد الأزمة الاقتصادية والانهيار المالي في دول جنوب شرق آسيا ، وروسيا ، ضربت الأزمة الاقتصادية اليابان وتراجعت قيمة العملة فيها مما انعكس خوفا وإرباكا على مجمل الاقتصاد العالمي ، إذ أن ذلك يشكل مؤشرا على بدايات تراجع في النظام الرأسمالي العالمي ، وليس صحيحا بأن الاقتصاد الأميركي سيكون بمنأى عن التأثر بما يحصل في دول جنوب شرق آسيا واليابان لأنه في العلم الاقتصادي هناك ترابط في الاقتصاد العالمي وأي انهيار في بعض مواقع هذا النظام سيؤثر حتما على البقية وعلى قيادة النظام الرأسمالي العالمي أي الولايات المتحدة
والدليل على ذلك أن أميركا سارعت إلى محاولة احتواء الآثار المترتبة عن الانهيارات الحاصلة وسعت لدعم الين الياباني ودعت لخفض قيمة الفائدة في إجراء وقائي لمنع وصول الأزمة إلى داخل أميركا . إلا أن هذه المحاولات لن تجنب الإمبريالية الأزمة وتتواصل الانهيارات الاقتصادية والمالية في العديد من أطراف النظام الرأسمالي العالمي ، وقد ضربت بشدة في روسيا التي تدور في فلك هذا النظام من خلال اتباع اقتصاد السوق والقروض من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي التي أوقعتها في أزمة اقتصادية ومالية حادة ولا تملك إمكانية الخروج من المأزق لذلك تلجأ إلى المزيد من القروض التي تصرف لدفع الأجور والرواتب المتأخرة للموظفين والجيش ، وهذا يعني أن هذه القروض لا توظف في قطاعات قد تؤمن مردود اقتصادي لتسديدها ، أي أنها لا تدخل في عملية استثمار أو توظيف من أجل التنمية الداخلية .
وأوروبا التي لم تتعرض حتى الآن لانعكاسات هذه الأزمة ، إلا أنها ليست بمعزل عنها وتقف مثل أميركا عاجزة عن المساعدة على وقف التدهور الاقتصادي العالمي ، لأن هذه الأزمات ليست طارئة بل هي تدخل في صلب بنية النظام الرأسمالي العالمي. وبالتالي لا يمكن لأميركا ، وتاليا لأوروبا ، والتي على صلة وثيقة مع كافة أطراف النظام العالمي أن تبقى خارج دائرة التأثر بما يجري ، لذلك يسود الهلع عند أركان هذا النظام من أن تؤدي الأزمة الحالية إلى حالة ركود اقتصادي في الدول الصناعية الكبرى مما قد يتسبب بانهيارات اقتصادية فيما بعد .
وستتحمل دول العالم الثالث نتائج هذه الأزمة ، فإضافة إلى استمرار عملية النهب الإمبريالي لثروات وموارد هذه الدول ، بدأت تعاني من الركود وازدياد معدلات البطالة مما سينعكس على زيادة حدة الفقر وتراجع المداخيل وفقدان الحماية الاجتماعية ، لذلك من شأن هذه الأزمة أن تؤدي إلى زيادة الضغط أكثر على الشعوب والدول الفقيرة من خلال اشتداد عمليات النهب والاستغلال والتحكم بهذه الدول ، والتدخل بشؤونها الداخلية ، وستزيد محاولات تخفيف أزمات النظام الرأسمالي العالمي على حساب شعوبها ، إلا أن هذه المحاولات لن تؤدي إلى حلول جذرية للإمبريالية والخروج من أزماتها ، وأن كانت توفر بعض الفرص المؤقتة والراهنة وتؤجل وقوعها في عمق الأزمة والانهيار .
هذا الوضع الاقتصادي العالمي المتأزم ، وضغط الدول الرأسمالية على الدول الفقيرة يشجع على تسعير الحروب المحلية والإقليمية والنزاعات القومية والدينية والحدودية كما هو حاصل حاليا ، إذ تكاد لا تخلو منطقة في العالم من الحروب والصراعات ، هذا التأجيج للنزاعات وان كان له أساسه المادي إلا أن استغلالها على أسس فوضوية واقتتال داخلي وإقليمي هو من صنع الإمبريالية الأميركية وخير مثال على ذلك ما يجري في معظم دول القارة الإفريقية وغيرها من مناطق العالم .
إن الدعاية الإمبريالية السابقة كانت تركز على أن وجود الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية هي سبب المشاكل والنزاعات في العالم ، وحاولت أن تصور أنه بانهيار هذه المنظومة سيحل السلام على العالم ، وانه بسقوط التجربة الاشتراكية سيتحول العالم نحو النظام الرأسمالي وبالتالي يجب على الشعوب الاقتداء بهذا النظام والسير تحت لوائه ، ومن المؤسف أن بعض القوى المحسوبة على اليسار في العالم أخذت بهذه الدعاية وتبنت برامج بمضامين مختلفة عن مضمون الفكر الاشتراكي وبذلك تبنت مقولات اقتصاد السوق والخصخصة .
والخصخصة مشروع إمبريالي عالمي بدأ يشق طريقه بقوة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في حملة مركزة ضد القطاع العام ، لذلك نرى الدول الرأسمالية الكبرى تحمل هذا القطاع مسؤولية الركود الاقتصادي في بعض البلدان . والحقيقة أن هذا الطرح ليس سوى خطة في مشروع الإمبريالية ضد منهج الاشتراكية التي تعتمد على تطوير وتوسيع القطاع العام ، واستهدافه لأنه يمثل توجه اشتراكي حتى داخل النظام الرأسمالي نفسه وذلك لتحريض الرأي العام الدولي على مناهضة الحركة الشيوعية ومفاهيمها ومعاداة الفكر الاشتراكي وخلق أجيال جديدة ناقمة على نموذج الاشتراكية .
ورغم هذه الحملة الرأسمالية وقدرات الإمبريالية ، ومع كل التطور الذي شهده العالم وخاصة النظام الرأسمالي من حيث تزايد فعل وتأثير الرأسمال المالي وحرية حركته في إطار ما يسمى بالعولمة ، والتي هي برأينا سمة من سمات تطور النظام الرأسمالي العالمي ، بحيث يتحول العالم ، وخاصة الدول النامية والفقيرة إلى سوق مفتوح واستهلاكي للسلع والمنتجات من الدول الرأسمالية دون أي قدرة للدول الفقيرة على المنافسة أو التبادل المتساوي ، نقول انه رغم هذه القدرات والإمكانيات للرأسمالية العالمية ، نشهد نهوضا جديدا وبوتيرة متسارعة للحركة الشيوعية وقوى اليسار العالمي الذي يحتل مواقع أساسية في الدول وخاصة المتقدمة ،إضافة إلى وصول الشيوعيين إلى معظم البرلمانات الأوروبية وآخرها في السويد وألمانيا ، كما يشهد الوضع في روسيا عودة سريعة للحزب الشيوعي مع لعب دور فعال ومؤثر ، لا بل الدور الفاعل الأول في حين لم يستطع يلتسين وجماعته من التصدي للأزمة الاقتصادية والسياسية هناك ، طرح الشيوعيون الروس مجموعة مقترحات إصلاحية اقتصادية نالت شبه إجماع سياسي وشعبي مما فرض على يلتسين الرضوخ وتبني ترشيح مرشح المعارضة بريماكوف مع مواقع أساسية في الحكومة والمصرف المركزي للشيوعيين .
والثورة التقنية في مجال الاتصالات والمواصلات ليست من إبداع الفكر الرأسمالي كما يدعي بل هي نتاج إبداع إنساني وهي غير متناقضة مع جوهر الفكر الاشتراكي الذي يقول بحتمية التطور والذي لم يتوقف لحظة عن التطور وان كان يسير بوتيرة أسرع في مرحلة معينة من مراحل أخرى ، وهذه العملية لا تأتي من فراغ بل هي نتيجة تراكم في المعرفة والمفاهيم العلمية وتستخدم الإمبريالية هذه التكنولوجيا الحديثة للإمساك أكثر بالوضع الاقتصادي العالمي وترسيخ السيطرة والتحكم بالشعوب وثقافاتها وحضاراتها . ومن المعروف أن تطور قوى الإنتاج تغير من علاقات الإنتاج ، وهذا المبدأ ما زال قائما ، وحسب المفهوم الماركسي فأن الثقافة هي انعكاس للواقع المادي الاقتصادي ، فمن الطبيعي انه عندما يبلغ الواقع المادي هذا المستوى من التطور العلمي أن تتأثر ثقافات الشعوب ، ومن هنا زاد كثيرا تدخل الإمبريالية في هذا المجال ، حيث نشهد مزيدا من سيطرة ثقافة الإمبريالية على العالم .
وأمام هذا الوضع يطرح سؤال أساسي وهو : هل ما زال الفكر الاشتراكي قادرا على شق طريقه أمام هذا التطور الهائل ؟ إن التطورات السياسية والاقتصادية والتقنية تثبت أكثر أنه لا يوجد طريق للتخلص من آفات وجرائم الرأسمالية واحتكاراتها واستغلال الإنسان للإنسان إلا طريق الاشتراكية ومن ملامح ذلك انه لم تمض فترة زمنية طويلة حتى شهدنا نهوض الحركة الشيوعية العالمية من جديد ، ونحن نرى تطور حركة اليسار والديمقراطية بشكل عام والحركة الشيوعية بشكل خاص في معظم دول العالم وخاصة الدول الرأسمالية التي تعاني داخليا من تحكم طبقي وأزمات داخلية على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والثقافي . وحتى في مرحلة وجود الاتحاد السوفياتي كان وصول الشيوعيين إلى البرلمانات في الدول الرأسمالية أقل حجما من اليوم وهذا يعني أن ما جرى في الاتحاد السوفياتي تم تجاوزه واستيعابه وتقييمه بشكل صحيح . وقد جلبت الرأسمالية إلى الدول الاشتراكية سابقا بشكل خاص كوارث اقتصادية وأزمات اجتماعية وتفشي الجريمة وانتشار المافيات ، مما دفع شعوب هذه الدول إلى التطلع بشغف نحو القوى الثورية والتقدمية للخلاص من هذا الواقع .
الأزمة الإيرانية – الأفغانية والوضع العربي :
تعود المقدمات التاريخية للأزمة الأفغانية إلى مرحلة النظام الشيوعي في أفغانستان ، الأمر الذي دفع الإمبريالية الأميركية إلى خلق قوى وتيارات مناهضة لهذا النظام بدعم عسكري وسياسي ومالي كبير لإسقاطه وتطابقت رؤية هذه القوى وتوجهاتها حول خطر الشيوعية . وساعدت باكستان ، وهي من أكثر الدول تبعية لأميركا ، وإيران ومعظم الدول العربية تلك القوى المعادية للنظام الاشتراكي . وبعد سقوط الشيوعية في أفغانستان انفجر الصراع بين أطراف الحركات الإسلامية وتحول إلى حرب أهلية ما زالت مستمرة حتى اليوم وتحولت الدول الإقليمية الداعمة لهذه الأطراف إلى التناقض فيما بينها نظرا لغياب التناقض الرئيسي مع النظام الاشتراكي ، وتوزعت ولاءات هذه التيارات بين تلك الدول ، كما عاد قسم من المقاتلين العرب في أفغانستان إلى بلدانهم ليؤسسوا بدعم إمبريالي حركات تخريبية تستهدف النظم القائمة مثل الجزائر ومصر والسودان .
ورفعت الإمبريالية الأميركية شعار محاربة الإرهاب ، وهي الدولة الإرهابية الأولى في العالم التي غذت الإرهاب ولجأت إلى تدبير الانقلابات العسكرية في العديد من الدول وخاصة دول العالم الثالث ، ونفذت مجازر بشعة بحق العديد من الشعوب ودبرت اغتيال شخصيات وطنية وتقدمية في العديد من الدول . ان رفع الإمبريالية هذا الشعار يهدف إلى تبرير تدخلها وإعطائه الشرعية ، وخاصة أنها تحاول الربط دائما بين الإرهاب وبين حركات التحرر العالمية وتنظيمات المقاومة المشروعة ضد الإمبريالية والتسلط الخارجي ، لأنه في ظل سياسة القهر والتحكم والأزمات الاقتصادية والاجتماعية تظهر ملامح حركات ذات سمة شعبية وطبقية ترفع مطالب تتعلق بالتخلص من الهيمنة الإمبريالية وبتحسين مستويات المعيشة .
وقد اصطدم جزء كبير من الحركة الإسلامية المعادية للشيوعية بسياسة الإمبريالية لارتباطها الوثيق بالحالة الشعبية المحيطة بها من جهة ، والضغط الإمبريالي عليها من جهة ثانية ، ونزعتها إلى بناء نظامها واقتصادها بشكل مستقل من جهة ثالثة . وأخذت مواجهتها منحى سياسي وعسكري حيث تقوم الإمبريالية بتأجيج الصراع بين حركة طالبان وإيران بهدف شل فاعلية الدور الإيراني الداعم للمقاومة في لبنان والانتفاضة في فلسطين والمتحالف مع سوريا والمعادي للعدو الصهيوني والإمبريالية الأميركية .
تواصل الإمبريالية ادعاءاتها باتهام الدول الرافضة لسياستها بدعم الإرهاب كسوريا وليبيا وإيران والعراق وتسعى إلى حشد التأييد الدولي للضغط على هذه الدول .ومن هنا استمرار الحصار ضد العراق والتضييق عليه وتجويع شعبه بذريعة التفتيش عن الأسلحة. وهذه السياسة الإمبريالية نابعة من أهمية هذه المنطقة الغنية بالنفط ولموقعها الاستراتيجي ، مما يتيح للإمبريالية الأميركية إبقاء سيطرتها على منطقة الخليج ووجود عسكري مباشر يشكل ضغطا على كل دول المنطقة . وفي نفس السياق يأتي استمرار الحصار ضد ليبيا والضغط الدائم على سوريا عبر تهديدها بخطر الحلف العسكري التركي – الإسرائيلي ، وتصعيد تركيا للهجة الاستفزاز والتهديد بالحرب ضد سوريا ، مع إعطاء إسرائيل دورا أكبر في التدخل في المنطقة لحساب الإمبريالية وتعزيز مصالحها وحمايتها .
ونلاحظ أن الإمبريالية التي تدعي محاربة الإرهاب ترعى أكبر دولة إرهابية في المنطقة وهي إسرائيل التي قامت أساسا على الإرهاب وممارسته وتغذيته ، ويرتبط هذا الدعم بالرؤية الاستراتيجية للإمبريالية تجاه المنطقة والقائم على اعتبار إسرائيل القاعدة العسكرية المتقدمة لها وتقوية دورها وموقعها لحماية المصالح الإمبريالية والدفاع عنها ، وللعب دور في خلق الفتن والخلافات الداخلية في الدول العربية لإيجاد واقع مادي يصعب معه إنجاز عملية التوحد العربي أو حتى بناء الحد الأدنى من التضامن العربي .
ولم تكتف الإمبريالية الأميركية بالدور الإسرائيلي بل عملت على تطويره عبر خلق تحالفات عسكرية تشكل خطرا على دول المنطقة وأبرزها الحلف التركي – الإسرائيلي ، مما وضع تركيا في موقع التناقض المباشر مع الدول العربية حيث خلق وضعا أمنيا مرتبطا بالكامل بالدور الأميركي والإسرائيلي. ويستهدف هذا الحلف الضغط والعدوان على سوريا وإيران ولبنان والعراق ، وعلى كل المواقع العربية الرافضة والمواجهة للسياسة الأميركية والإسرائيلية ، وبتقديرنا أن الولايات المتحدة تسعى لتوسيع قاعدة هذا الحلف عبر محاولتها ضم بعض الدول وأبرزها الأردن الذي انخرط عمليا في الحلف عبر مشاركته في مناوراته العسكرية ، وخضوعه للسياسات التي يقرها ومحاولات جر بعض الدول العربية إلى التطبيع مع إسرائيل مما يشكل خطرا على المنطقة وعلى أمنها واستقرارها واستقلالها ، وعلى أي طموح للوحدة والتحرر. خاصة أن الإمبريالية الأميركية تصر على التفوق العسكري الإسرائيلي على كل الدول العربية وحتى الشرق أوسطية بما فيها إيران وتمتلك السلاح النووي والكيماوي والجرثومي وتعمل على تطوير قدراتها العسكرية باستمرار مما يهدد أمن المنطقة ويسقط الادعاء الأميركي بالعمل من أجل السلام .
من هنا نرى أن المنطقة مهددة من هذا الحلف المعادي ومن القوة العسكرية الإسرائيلية والسياسة الأميركية، والمطلوب مواجهة عربية حقيقية لهذه المخاطر وهذه المواجهة تكون ثمرة التضامن العربي ولو بحده الأدنى من جهة ، وتطور الحركة الشعبية العربية والحركات المناهضة للإمبريالية والتي عليها مجتمعة التنسيق والتعاون فيما بينها، إلا أننا حتى الآن لا نرى ما يطمئن في وضع هذه الحركات إذ أن مستوى تأثيرها وحركتها أقل من مستوى الأحداث وتطورها ، وهذا نابع من عدة عوامل أهمها أولا : أن سياسة قمع الحريات في الوطن العربي تعيق تطور الحركة الشعبية وتأثيرها ، وثانيا : ضعف الحركة الشيوعية العربية والتي ازدادت ضعفا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي مما أثر على نمو الحركة الشعبية العربية ، وثالثا: التخلي والابتعاد عن الكفاح المسلح ضد الإمبريالية الأميركية والعدو الصهيوني ، مع العلم أن القوات الأميركية والمتعددة الجنسيات لم تنسحب من بيروت إلا بفعل عمليات المقاومة ، وكذلك قوات الغزو الصهيوني التي تراجعت عن معظم الأراضي اللبنانية بفعل ضربات جبهة المقاومة الوطنية . واليوم المطلوب استمرار العمل العسكري المقاوم ضد قوات الاحتلال الصهيوني في جنوب لبنان ، وهي جزء من قوة الإمبريالية العالمية، وهذا الموقع في جنوب لبنان يكاد يكون الموقع الوحيد في العالم الذي يقاتل قوات الإمبريالية لذلك من المهم دعم هذه المقاومة والمشاركة فيها بفعالية وقوة ، وإضافة إلى المقاومة في جنوب لبنان هناك أيضا مقاومة الشعب الفلسطيني داخل الأرض المحتلة . والإمبريالية تضع في أولوياتها الوضع الفلسطيني وإيجاد حل له للتفرغ للأوضاع الأخرى ولتأمين قدر من الاستقرار الداخلي لإسرائيل . لذلك فعمل المقاومة في الجنوب والانتفاضة الشعبية في الأرض المحتلة ضرورة أساسية كونها تضرب العدو في موقعه الأساسي وتدخله في إرباكات تؤدي إلى نوع من الانقسامات الداخلية في المجتمع الإسرائيلي .
ان الضغط الأميركي على عرفات الذي لا يملك خيارات كبيرة قد أدت إلى تنازله وموافقته على الاتفاق الأخير في واشنطن الذي تنازل فيه عن السيادة على الأرض الفلسطينية وتراجع حتى عن الاقتراح الأميركي القاضي بانسحاب إسرائيل من 13٪ من أراضي الضفة الغربية ، كما تنازل عن تحديد موعد إعلان الدولة الفلسطينية وعن القدس في كلمته في الأمم المتحدة ، وهذه التنازلات تؤدي إلى مزيد من التفريط بالحقوق العربية والفلسطينية وتمكين إسرائيل من السيطرة والتوسع وإعطائها المجال أكثر للسيطرة العسكرية والأمنية وقمع الشعب الفلسطيني بمشاركة سلطة الحكم الذاتي . إذ قبل هذا الاتفاق كانت الانتفاضة تطل بين فترة وأخرى من منافذ متعددة وتضرب على أرضية الخلاف بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل ، أما الآن فلا بد من وجود شروط جديدة إسرائيلية تضمنها الاتفاق الأخير وهو التزام الطرف الفلسطيني بضبط الأمن وقمع المعارضة والانتفاضة مما سيؤدي إلى مزيد من الضغط الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني وعلى لبنان وسوريا ، لأنه باستقرار الوضع نسبيا لمصلحة إسرائيل في الداخل تشتد عدوانيتها خارج الأرض المحتلة بسبب الترابط والتكامل بين الانتفاضة في الداخل والمقاومة في لبنان .
الوضع اللبناني :
يمر الوضع اللبناني الداخلي في مرحلة الاستحقاق الرئاسي ورغم المواقف والتصاريح فالخلافات بشأنه لا تعدو كونها مواقف للاستهلاك المحلي ، إذ أن هذا الاستحقاق ومنذ الاستقلال يتقرر خارج لبنان وما على المجلس النيابي الا الإخراج الدستوري له بغض النظر عن أسماء المرشحين وبرامجهم الانتخابية .
وهذا الأمر ليس مستغربا في بلد مثل لبنان يدور في فلك الرأسمالية العالمية وإذا كان اليوم للدور السوري تأثير فاعل إلا انه لا يمكن أن يتمتع باستقلالية كاملة في هذا الاستحقاق إذ هناك توازنات دولية يجب أن تؤخذ بالاعتبار، كذلك تأثيرات محلية لا بد أن تراعى .
ومع أهمية مواصفات رئيس الجمهورية القادم ، لا بد من تحديد المشكلات والقضايا المطروحة والتي مطلوب من الرئيس الجديد العمل على حلها وتطوير الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لمصلحة الشعب اللبناني .
فالاقتصاد اللبناني يعاني من الركود والتراجع وتتدهور الأوضاع المعيشية ويزداد الفقر وذلك نتيجة سياسة الأعمار التي تنتهجها السلطة ، هذه السياسة التي قامت على ضرب قطاعات الإنتاج وعلى الاستدانة من الخارج وعلى زيادة الضرائب والرسوم على المواطنين . كذلك غابت عن سياسة الحكومة مشاريع التنمية وخاصة في الأطراف والمناطق النائية . كما أن المستوى الانفاقي الذي صرف على مشاريع البنية التحتية يفوق أضعاف ما تم إنجازه وهذا ما يسمى بالهدر والذي هو عبارة عن سرقات وسمسرات وصفقات مشبوهة وبذلك بلغت ديون لبنان 17 مليار دولار ، وهذه الديون ستزيد من تفاقم الأوضاع المعيشية والاجتماعية . في الوقت الذي لم نر أي استثمارات عالمية توظف في لبنان كما وعدت الحكومة ، بل على العكس فأن الاستثمارات المحلية تحاول الانسحاب من لبنان إلى الخارج . لذلك فأن آفاق تطور الوضع الاقتصادي أصبح مسدودا بسبب سياسة الحكومة التي أهملت القطاعات الإنتاجية الأساسية وخاصة الصناعة والزراعة ، وحتى السياحة لم نشهد عودتها كقطاع اقتصادي أساسي .
ولن يتمكن أي رئيس للجمهورية من تغيير في هذا الواقع إلا بناء على التغيير في الخطة والبرنامج العام بدء من خطة الأعمار وتطوير قطاعات الإنتاج ووقف الاستدانة الخارجية وتأمين فرص عمل جديدة ووقف عمليات السمسرات والصفقات المشبوهة والمحاصصة الطائفية والمذهبية وعودة المهجرين وتعزيز الوحدة الوطنية ودعم المقاومة وإلغاء الطائفية وتحقيق العلمنة .وإضافة لكل ذلك موضوع الحريات وهو مهم جدا في تطوير إمكانيات البلد الاقتصادية ، لإطلاق رأي عام ضاغط على السلطة لتصحيح نهجها ومراقبتها . أما إذا كانت قوة الضغط معطلة بسبب القمع والقهر ومنع التظاهر واحتواء الاتحاد العمالي العام وشل فاعليته وفاعلية القوى النقابية والديمقراطية واحتوائها تحت ضغط المال والسلطة والنفوذ فلا يمكن لها أن تشكل قوة شعبية .
وفي ظل تعطيل دور المجلس النيابي ، وإلغاء قوة الضغط الشعبية بالقمع والمصادرة يبقى الأمل معلقا على القوى التقدمية والديمقراطية الحقيقية بأن تشق طريقها وتطور إمكانياتها لفرض حركة شعبية حقيقية لمواجهة نهج السلطة ومشاريعها . وبتوحد هذه الحركة الشعبية والمعارضة يمكن تحقيق نتائج إيجابية وبداية لتغيير فعلي في الواقع اللبناني .
وتزداد معاناة الشعب اللبناني على أبواب العام الدراسي الجديد الذي وصل إلى حالة من عدم القدرة على تعليم أبنائه، فالمدرسة الرسمية يتم تحجيمها وتقليص إمكانياتها وتحرم من أي دعم عن عمد لتنمية القطاع الخاص المستثمر على حساب برنامج تعليمي رسمي موحد لمصلحة الطلاب . وهذه الأزمة ستزيد وطأة الضغط المعيشي وستؤدي إلى انتشار سياسة تجهيل الشعب وأزمة التعليم تترافق مع أزمة السكن والطبابة والاستشفاء.
ويأتي ذلك في سياق سياسة ضرب القطاع العام والتخلص منه وبكل ما له علاقة بمسؤولية السلطة تجاه الناس إذ تبدأ بتهميش القطاع العام وإضعافه وصولا لبيعه وخصخصته كما في التعليم الرسمي والجامعة اللبنانية لمصلحة تفريخ جامعات خاصة وبعضها ذات سمة طائفية وكذلك في قطاعات الكهرباء والهاتف والبريد وغيرهم ، التي ستتحول إلى أسهم في أسواق البورصة يتم تداولها من قبل الرساميل المحلية والأجنبية ومنها الصهيونية ، مما سيزيد من ارتباط لبنان بالرأسمال العالمي والتبعية له ويفقده الحد الأدنى من حريته واستقلاله .