بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ، نصبت الإمبريالية نفسها قائدة وحيدة للعالم ، وللنظام الرأسمالي العالمي، وتحكمت بإدارة الصراعات الدولية من جهة، وبالوضع الاقتصادي والسياسي العالمي من جهة ثانية وقد حمل هذا التطور مزيدا من عمليات الاستغلال والنهب وخاصة لدول العالم الثالث ، وباتت بعض الضوابط الدولية ومنها دور الأمم المتحدة عاجزة عن القيام بدور ذي شأن في حل النزاعات العالمية ، وفي الدفاع عن سيادة الشعوب وحقوقها ، كما أصبحت كافة المؤسسات الدولية خاضعة بشكل شبه كامل للتوجه الإمبريالي وخاصة الأميركي .
وكانت الولايات المتحدة قد بشرت بعد سقوط المنظومة الاشتراكية بأن العالم سيشهد نوعا من الاستقرار وسيسود السلم بين الدول، مدعية أن عوامل التوتر كانت نتيجة وجود النظام الاشتراكي العالمي واشتداد وتيرة الحرب الباردة . إلا أن ما نشهده هو أن العالم اصبح أكثر عرضة للسيطرة والتحكم من قبل الرأسمالية العالمية والإمبريالية الأميركية ، وأكثر عرضة للإرهاب الدولي الذي كان الاتحاد السوفياتي متهما بارتكابه . كما تفجرت وأكثر من السابق الحروب الداخلية والحروب الإقليمية ذات الطابع البرجوازي والفوضوي ،وذات الطابع العشائري والقبلي والطائفي ، وتفردت الإمبريالية الأميركية بالتحكم بهذه الحروب .
ويأتي على رأس هذه الحروب قضية يوغسلافيا ، وكنا قد حددنا في مواقفنا السابقة انه حتى في مرحلة الوصول إلى اتفاقات لحل الأزمة هناك وبرعاية أميركية ، فأن هذه الاتفاقات لن تدوم طويلا لأنها ، ولم تحفظ الحقوق الوطنية لهذه الشعوب ولم تحقق مفهوم الحرية والعدالة والمساواة ، إنما قامت على أساس تقسيم مناطق النفوذ بين الدول الرأسمالية الكبرى وعلى أساس السيطرة وإبقاء هذه الأوضاع معرضة للاهتزاز الداخلي لإعادة الاقتسام لاحقا بما يراعي مصالح الإمبريالية الأميركية بشكل خاص ، كذلك لاستعمال هذه القضية أداة ضغط على بعض الدول الأوروبية للانصياع أكثر لإرادة الولايات المتحدة ولذلك كان تطوير وتعزيز دور الحلف الأطلسي في أوروبا وصولا إلى حدود روسيا ودول الاتحاد السوفياتي سابقا .
وتفجر الصراع مجددا في إقليم كوسوفو في يوغسلافيا ، واحتدام الصراع العسكري لم يكن ليتطور لولا دعم الأطراف المتصارعة من دول وأطراف خارجية وخاصة الدعم الإمبريالي الأميركي للألبان ولجيش تحرير كوسوفو . كما أن التهديد الأميركي المستمر بتدخل الحلف الأطلسي عسكريا في الإقليم في حال حصوله من شأنه أن يزيد حدة التوتر خاصة في ظل تحذير روسي من هذا التدخل واعتبار أن أي عمل عسكري غربي ضد الصرب قد يؤدي إلى مواجهة شاملة .
إذا، أن القول أننا دخلنا في عصر السلم العالمي وانتهاء الحرب الباردة غير صحيح . إذ يحمل الوضع الراهن اثار الحرب الباردة ويظهر ذلك في التعاطي مع القضايا الدولية وبروز خلافات في وجهات النظر ، وفي التوجهات العامة بين الدول الكبرى حيال الحلول المطروحة لبعض القضايا الصراعية وتسعى الإمبريالية لإبقاء التوتر قائما في يوغسلافيا ومسيطرا عليه لأن ذلك من شأنه إبقاء ذرائع التدخل للحلف الأطلسي قائمة على مقربة من روسيا وفي وسط أوروبا والتحكم بالسياسة الأوروبية ومنعها من ممارسة سياسة مستقلة عن الإمبريالية الأميركية ، ولدعم التوغل الرأسمالي الأميركي داخل أوروبا وتطويره ، وتهدف الولايات المتحدة من البقاء على مقربة من روسيا ودول الاتحاد السوفياتي سابقا إلى استمرار التدخل في شؤون هذه الدول والتأثير عليها لمنع حدوث أي تطورات سياسية وشعبية تؤثر على السياسة الإصلاحية الرأسمالية في روسيا ، ولضرب إمكانية نمو الحركة الشيوعية خوفا من عودتها إلى السلطة وإعادة إبراز قضية الاشتراكية ، خاصة ان دور القوى المؤيدة للاشتراكية آخذ بالتعاظم مما يقلق دوائر الإمبريالية .
شكل السلاح النووي عامل من عوامل التوازن الأساسية في العالم بين الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية وبين الإمبريالية الأميركية والنظام الرأسمالي العالمي ، وقد أعطى هذا التوازن فرص كبيرة لتطور حركة الشعوب وحركات التحرر العالمية وسمح للعديد من الدول بتحقيق التنمية الداخلية بشكل مستقل ، ولا يزال هذا التوازن قائما بوجود الترسانة النووية الروسية برغم التغييرات التي طرأت على روسيا ، ولا يطمئن بقاء هذه الترسانة الإمبريالية التي تسعى بشكل دائم لتقليصها لتصبح بمأمن في حركتها الدولية وسياستها الاستراتيجية للتحكم بالعالم إلى فترة طويلة قادمة. لذلك نرى أن للسياسة النووية بعدها الراهن والاستراتيجي ولها أهمية في تكوين الوزن الدولي ، فبعض الدول الأعضاء في مجلس الأمن الدولي دخلت هذا المجلس كونها دول نووية لأنه ليس من مصلحة الدول النووية أن تبقى أي دولة مالكة لهذا السلاح خارج نطاق السيطرة كما أن أي توافق دولي تتحكم به الأطراف المالكة للسلاح النووي.
وعلى هذا الأساس أخذت بعض الدول تسير باتجاه امتلاك قدرات نووية منها الهند وباكستان والكيان الصهيوني ، وكان السعي الهندي مدعوما من الاتحاد السوفياتي في بداياته على اعتبار الهند دولة كبرى ومن دول عدم الانحياز سابقا وكان من مصلحة السوفيات توثيق صلتهم بها على المدى الاستراتيجي ، بينما دعمت الولايات المتحدة باكستان نوويا ، كما كانت وراء تزويد الكيان الصهيوني بالقدرات النووية بعد أن كانت فرنسا قد زودتها بأول مفاعل نووي .
وتدخل التجارب النووية الهندية والباكستانية في إطار الصراع بين الدولتين ، غير أن لهذا التطور بعدا استراتيجيا يتمثل في أن الهند التي تضم خمس عدد سكان العالم تتخوف من تطور الصين وقد سعت لامتلاك السلاح النووي لتتحول إلى دولة تفرض سياستها واقتصادها على بعض دول العالم . بينما تسعى باكستان وفي إطار صراعها مع الهند لتحقيق التوازن النووي معها مما يحد من طموح وقدرة أي من الدولتين من التفوق على الدولة الأخرى وبالتالي يعطي كلا منهما وضعا دوليا خاصا . وبرأينا أن السلاح النووي في الهند وباكستان على السواء لن يفيد عملية تعزيز السلم العالمي أو منع الحروب على الصعيد الدولي أو في إخماد بؤر التوتر الإقليمية بل على العكس سيؤدي إلى احتدام الصراع الدولي .
وامتلاك الهند وباكستان للسلاح النووي سيؤثر مباشرة على منطقة الخليج ، كون هذه المنطقة ذات أهمية استراتيجية وتحوي 60 % من احتياط النفط العالمي لذلك هي محط أنظار الدول الرأسمالية وعلى رأسها الولايات المتحدة ، خاصة أن قلة عدد السكان للدول الخليجية، باستثناء العراق وإيران ، لا يمكنها من بناء قوة عسكرية لحمايتها مما يؤدي إلى قلق خليجي من الخطر النووي الهندي والباكستاني مما يدفعها أكثر للارتماء في أحضان الإمبريالية الأميركية وتنفيذ إرادتها السياسية مقابل ادعاء حمايتها، خاصة أن أعداد الهنود والباكستانيين كبيرة في دول الخليج مما يخلق خوفا مستقبليا عند هذه الدول من لجوء الهند وباكستان إلى التدخل العسكري في لحظة سياسية محددة بحجة حماية رعاياهم من خطر مزعوم وذلك بالتوافق مع أميركا .
أما بالنسبة للكيان الصهيوني ، فان امتلاكه للسلاح النووي يتعلق بالبعد الاستراتيجي للسياسة الإمبريالية والصهيونية العالمية على قاعدة دعم إسرائيل بكافة الأسلحة والقدرات العسكرية لتحقيق تفوقها العسكري على جميع الدول العربية وهي تمتلك اليوم 200 راس نووي مما يهدد أمن المنطقة بأكمله .
ويبقى أن العرب هم الطرف الأضعف في المعادلة النووية في ظل وجود قوى نووية على مقربة من الشرق الأوسط وفي قلب منطقتنا العربية ، مما يساعد الإمبريالية على تحقيق عملية التفتيت الداخلي وإضعاف عوامل التوحد والتضامن وإكمال السيطرة على خامات المنطقة ونفطها . وفي حال لم يحقق العرب الحد الأدنى من التضامن ومن التنسيق الاقتصادي والسياسي ، فان مستقبل سيئ ينتظرهم مما يدفع بحلفاء الإمبريالية في المنطقة إلى التطاول على الدول العربية في ظل مراهنة معظم هذه الدول على الدور الأميركي ، وذلك لغياب القيادة العربية القادرة على جمع العرب في هذه المرحلة الصعبة على مواقف موحدة ، ولفقدان الجماهير العربية ثقتها بقياداتها وبسبب سياسة القمع والإرهاب التي تمارسها الأنظمة العربية ضد جماهيرها ومنعها من التحرك والنضال ومصادرة كل أشكال الحريات ، ثم لأن ثروات الأمة العربية تنفق في غير مجالات التنمية وتوظف خارج بلدانها في الشركات والمصارف الأجنبية .
هذا الواقع أعطى إسرائيل إمكانية تنفيذ سياسة عدوانية توسعية ، ومما زاد في إرباك وضعف الواقع العربي وقوع حرب الخليج الأولى بين العراق وإيران واستنزاف قدرات وطاقات أكبر دولتين في منطقة الخليج ، ثم حرب الخليج الثانية والتي أدت إلى تواجد عسكري أميركي مباشر ودائم في الخليج ، واستمرار الضغط والحصار على العراق لإضعافه أكثر ولخلق الذرائع لاستمرار التواجد العسكري والعدواني لمنع العراق من النهوض اقتصاديا وعسكريا والاضطلاع بدور أمني أساسي في منطقة الخليج لأنه قادر على توظيف طاقاته وإمكاناته في خدمة العراق والمنطقة العربية .
ان إطلاق صفة القنبلة النووية الإسلامية والإيحاء بأن السلاح النووي الباكستاني هو قوة للمسلمين في مواجهة إسرائيل يهدف إلى تضليل الشعب العربي وخداعه ، لأن هذا السلاح لن يشكل أي رادع للعدو الصهيوني . ومع بقاء شبكة العلاقات الأميركية الباكستانية فهذا يعني أن استعمال هذا السلاح سيكون بإشراف ووصاية أميركية ، لذلك فهو يضيف قوة جديدة الى جانب الإمبريالية العالمية ، ولهذا السبب لم تحتج الولايات المتحدة على هذه التجارب ولم تتخذ إجراءات سياسية واقتصادية ضد باكستان . ومن هنا أهمية فهم الموضوع النووي ببعده الاستراتيجي ومخاطره على الشرق الأوسط والمنطقة العربية .
في ظل هذه التطورات على الشعب العربي وقواه التقدمية والوطنية ضرورة التوحد والنضال وتعزيز المؤسسات الديمقراطية والحزبية والحركات النقابية والاجتماعية في مواجهة قمع الأنظمة واستبدادها من جهة ، وفي مواجهة التحكم الإمبريالي الصهيوني من جهة ثانية . والسعي لتحقيق حد أدنى من التضامن العربي وصولا إلى بدايات وحدة اقتصادية عربية ، ولكن هذه القضايا لا يمكن تحقيقها إلا في ظل نهوض جماهيري عربي ، وتوحد في حركة شعبية ديمقراطية عربية في مواجهة تخاذل الأنظمة وسياستها القمعية والتي لا ترى خطرا يهددها إلا من شعوبها .
ويأتي في أولوية المهام الوطنية تصعيد النضال ضد العدو الصهيوني وهذا من شأنه تعطيل أهمية ومفاعيل السلاح النووي الإسرائيلي . إذ أن انتفاضة شعبية في الأرض المحتلة وتحركات جماهيرية في فلسطين لن تخشى من السلاح النووي وبذلك تعطل قدرات العدو وتفوقه بالعمل العسكري والمقاوم داخل الأرض المحتلة وخارجها .
يشهد النظام الرأسمالي العالمي حالة ركود في بعض أطرافه ومنها دول جنوب شرق آسيا واليابان التي تشهد أزمة مالية وانخفاض في قيمة عملتها ، كما يبرز الركود في الشركات الكبرى والمؤسسات المالية ، وهذا مؤشر لبدايات تراجع وضعف في النظام الرأسمالي العالمي لذلك سارعت الولايات المتحدة وبعض الدول الرأسمالية لدعم الين الياباني خوفا من انعكاس هذا التدهور على أوضاعها ، وقد تصيب هذه الدول نجاحا محدودا لفترة قصيرة إلا أن مؤشرات التراجع مستمرة وهذا من شأنه التأثير على مجمل الوضع الاقتصادي الدولي سلبا .
ومع اشتداد الأزمة الاقتصادية العالمية ستلجأ الدول الإمبريالية للتخلص من أزمتها أو تخفيفها إلى مزيد من التوتير العالمي ، وتصعيد بعض بؤر التوتر والحروب الإقليمية وهذا من شأنه تحريك سوق السلاح العالمي وعقد الصفقات الاقتصادية والتي ستكون مجحفة بحق شعوب العالم وخاصة العالم الثالث .
ومن هنا تأتي زيارة كلينتون إلى الصين الشعبية والناتجة أساسا عن تخوف أميركي من الوصول إلى حالة الركود الاقتصادي ، وخاصة أن الصين تتمتع بوضع اقتصادي متين وتشكل ربع سكان العالم وبالتالي فانفتاح العلاقة بين الصين والولايات المتحدة يحسن الوضع الاقتصادي الأميركي خاصة أن السوق الصيني واسع ،على الرغم من أن الصين بنظامها الاشتراكي ما زالت متماسكة اقتصاديا برغم الإصلاحات التي فرضتها طبيعة الأوضاع السائدة عالميا . وتشهد الصين نموا اقتصاديا متصاعدا بعكس دول النظام الرأسمالي التي تشهد تراجعا مستمرا ، مع تأكيد القيادة الصينية على التمسك بالنظام الاشتراكي وتطويره . لذلك ستحاول الإمبريالية الأميركية فيما بعد ممارسة سياسة الاحتواء ضد الصين في مجال العلاقات الدولية ، وبتقديرنا أن الصين واعية للتوجه الإمبريالي وبالتالي لن تسير في طريق يساعد على محاصرتها وإضعافها ، بل تحاول الاستفادة من هذه الظروف والمعطيات الدولية السياسية والاقتصادية لترسيخ نظامها الاشتراكي .
كما تسعى الإمبريالية إلى ترسيخ الحلف التركي – الإسرائيلي وتعزيزه وتعمل على إدخال الأردن هذا الحلف لما يشكله ذلك من اختراق خطير للوضع العربي الذي ينقل الخطر المباشر إلى داخل المنطقة العربية ويعرقل محاولات التوحد والتضامن العربي ويسعى هذا الحلف للتحكم بمياه دجلة والفرات للضغط على سوريا والعراق .
إن تدخل تركيا في قبرص يشكل تدخلا في أقرب موقع للمنطقة العربية ويسعى الحلف التركي – الإسرائيلي إلى تحويل قبرص قاعدة عسكرية متقدمة لتطويق مواقع عربية رئيسية ومحاصرتها ، كما يشكل هذا التدخل عامل توتر دائم لأوروبا وهذا الأمر مطلوب أميركيا بهدف عرقلة الوحدة الأوروبية ، ومن هنا معارضة أوروبا لانضمام تركيا إلى الوحدة الأوروبية أو إلى السوق الأوروبية المشتركة . وفي حال تفاقم المسألة القبرصية أكثر ستؤدي إلى توتر إقليمي ودولي في ظل الدعم الروسي لليونان وقبرص بما يتعلق بقرار قبرص نشر الصواريخ على أراضيها ، مقابل تهديد تركي بعمل عسكري مدعوم من الولايات المتحدة لمنع نشرها .
وتعود مجددا إلى الظهور الصراعات الدولية في القارة الإفريقية ، ونشهد بدايات حرب أهلية في غينيا – بيساو ومحاولات من الإمبريالية للسيطرة عليها والتحكم بها اقتصاديا وسياسيا وذلك في إطار الصراع الأوروبي – الأميركي في أكثر من منطقة في العالم .
كذلك نشهد حربا حدودية بين أثيوبيا وارتيريا يدفع شعبي البلدين ثمنها وذلك لإيجاد ذرائع للإمبريالية للتدخل العسكري المباشر في تلك المنطقة مما يحكم سيطرتها على باب المندب و الممرات المائية وعلى منابع النيل ومحاصرة السودان والضغط على اليمن . وما يؤكد هذا التوجه الإمبريالي هو خضوع أثيوبيا وارتيريا على السواء للتبعية المطلقة لأميركا مما يسقط الذرائع المنطقية لهذه الحرب وينفي عنها صفة الصراع الدولي الأوروبي – الأميركي .
ويشهد اليمن تحركات وانتفاضات شعبية تفجرت اثر رفع الحكومة اليمنية أسعار المواد الغذائية تلبية لشروط صندوق النقد الدولي مقابل منحها قروض مالية ، ومن المعروف أن السياسة النقدية العالمية تخضع لمشيئة الإمبريالية الأميركية وبعض الدول الرأسمالية التي تقدم قروضا محكومة بشروط قاسية وقد التزمت الحكومة اليمنية ، التي جاءت نتيجة معادلة دولية – إقليمية ، بهذه الشروط مما فجر تظاهرات ومواجهات معارضة شعبية ، وقد ردت الحكومة بقمع هذه التحركات بشدة مما أوقع قتلى وجرحى ، وذلك بدل الرضوخ والتراجع عن سياسة رفع الأسعار في ظل أزمة اقتصادية واجتماعية خانقة يمر بها اليمن .
وفي الجزائر ما زال الوضع الداخلي متفجرا في ظل استمرار المجازر البشعة والصراعات الداخلية ، وقد تفجرت مؤخرا قضية جديدة قد تضيف إلى الصراع الدائر عاملا جديدا من عوامل التصعيد وهي قضية البربر على اثر اغتيال المطرب البربري معطوب الوناس . وبتقديرنا أن هذه المسألة مخطط لها لخلق قضية بربرية في مواجهة قضية عروبة الجزائر ومن المعروف أن للبربر ثقافتهم ولغتهم وتقاليدهم الخاصة ، وكانوا دائما مستعدين أن يكونوا في ظل دولة جزائرية موحدة تحترم خصوصياتهم ، إلا أن السياسة الغير حكيمة للحكومة وقمع الحريات على المدى التاريخي ولد هذه القضية ، إلى جانب الضغط الاقتصادي والتردي المعيشي الذي أدى إلى تفجر الصراعات الداخلية . ومن هنا لا يبدو في الأفق إمكانية حل سريع لهذه الأزمة ، خاصة بعد تهميش دور القوى الديمقراطية والشعبية الحقيقية ، لذلك على هذه القوى أن تأخذ دورها وتزيد من حضورها وتأثيرها السياسي والنضالي لخلق الأمل في تغيير الوضع السائد في الجزائر .
وفي الوضع الفلسطيني يبرز بوضوح المأزق الذي وصلت إليه عملية التسوية ، فرغم التراجع والتنازلات التي قدمتها سلطة الحكم الذاتي والتي أوصلت الأمور إلى مزيد من التعقيد ، تستمر سياسة التعنت الإسرائيلي في ظل موازين قوى لمصلحة العدو تسمح له بالتمسك برؤيته الاستراتيجية حول إسرائيل الكبرى على حساب أي شكل من أشكال الدولة الفلسطينية . وفي هذا المجال لا بد من التطرق إلى الزيادة المستمرة في عدد المستوطنات وسياسة توسيع وتهويد القدس ومحاصرتها والسيطرة عليها . ويبرز الدعم الأميركي الكامل للسياسة الإسرائيلية ليسقط كل ما يقال حول تعارض أميركي – إسرائيلي بشأن الأراضي المحتلة ، وكل ما يشاع عن خلافات بين الطرفين بشأن حجم الانسحاب الإسرائيلي من الضفة الغربية أو بشأن عمليات الاستيطان هي أمور تهدف إلى تضليل الرأي العام العالمي والعربي ، ولتبرير تبعية والتحاق بعض الدول العربية بالسياسة الأميركية .
هذه العلاقة الأميركية – الإسرائيلية تؤكد موقفنا بأن إسرائيل أولا وأخيرا هي عبارة عن كيان له وظيفة في هذه المنطقة وهي خدمة مصالح الإمبريالية والرأسمال العالمي ، إضافة الى خلق عوامل التفتيت ومنع تقدم الوضع العربي وتوحده وتحقيق التنمية الشاملة . وبسبب هذا الدور الراهن والاستراتيجي لإسرائيل ، سيبقى الدعم الأميركي السياسي والعسكري والاقتصادي والمالي مستمر ، ولا تتردد الولايات المتحدة بإعلان التزامها تفوق إسرائيل عسكريا على كل الدول العربية ، ومتميزة بامتلاكها السلاح النووي بدعم إمبريالي كامل .
في الوضع اللبناني : شكلت الانتخابات البلدية أهم محطة في الوضع الداخلي مؤخرا ، ونحن نعتبر ان مجرد حصولها إنجاز فرضه الضغط الشعبي على السلطة ، بالرغم من استعمال السلطة كل أشكال الضغط السياسي والمعنوي واستغلال نفوذها وامتيازاتها لدعم لوائحها ومرشحيها ، إضافة إلى إنفاق الأموال دون حدود ، وتجيير الإعلام لمصلحة تحالفات لوائح السلطة .وقد حاولت الحكومة قبل موعد الانتخابات إقصاء الناس عن المشاركة عبر المماطلة في تحديد مواعيد إجرائها وخلق حالة عدم ثقة لدى الشعب بحصول الانتخابات وتلميح السلطة نفسها بين وقت وآخر بإمكانية تأجيلها ، مما ضيع على القوى الديمقراطية والشعبية فرصة التعبئة والتنظيم قبل فترة طويلة من موعد الانتخابات . ورغم أن النتائج العامة للانتخابات لم تأت كما يجب أن تكون ، إلا انه سجل في بعض المناطق انتصارا للمعارضة الوطنية والديمقراطية ، وفي مناطق أخرى حصلت المعارضة على عدد كبير من الأصوات ، كما أن بعض أركان السلطة ورموزها خسروا في مناطقهم مما يدل على ضعف شعبيتهم . إن حجم الأصوات التي نالتها قوى المعارضة والانتصارات التي سجلتها يدل على وجود قوى معارضة شعبية حقيقية مما يفرض علينا التفكير جديا في المرحلة القادمة ، والتي تفترض أن يتطور دور القوى الوطنية والديمقراطية اللاطائفية ، سياسيا واجتماعيا و النضال لتغيير سياسي و قانوني خاصة في قانون الانتخابات البلدية ، الذي يضم ثغرات ونواقص منها ما يتعلق بانتخاب رئيس البلدية ونائبه ، والمفروض أن يكون انتخابهما من الشعب مباشرة ، وكذلك توسيع صلاحيات المجالس البلدية وتطبيق اللامركزية الإدارية ، وفي موضوع الإنفاق المالي ، يجب وضع سقف محدد للأنفاق المالي على الحملات الانتخابية لمنع عمليات الرشوة وشراء الأصوات والتأثير على الناخبين . وفي مجال الإعلام ، حيث يجب اتاحة الفرص المتساوية للمرشحين في الوسائل الإعلامية ، بدل احتكار السلطة ولوائحها ومرشحيها لهذه الوسائل وحجبها عن المعارضة بما فيه الإعلام الرسمي .
ولكن في المحصلة أصبح في لبنان مجالس بلدية مسؤولة عن مشاريع تنموية وخدماتية ، وان كنا على قناعة بأن المجالس البلدية التي فرضت فرضا أو شبه تعيين لن تتمكن من القيام بعملية التنمية المحلية وتطوير قراها وبلداتها كونها لم تأت بإرادة الناس ، بل هي تعبر عن إرادة السلطة التي لا تولي أي أهمية للإنماء المتوازن وتطوير الأرياف والمناطق اللبنانية خارج العاصمة وبعض المدن الكبرى ، خاصة أن العديد من أعضاء المجالس الموالية لا يتمتعون بثقة الناس ومنهم من له سوابق أخلاقية ومسلكية مشينة .
و يهمنا في هذا المجال أن نواصل دورنا الفاعل في المواقع التي نؤثر فيها بالضغط على المجالس البلدية و مراقبتها من خلال حركتنا و علاقتنا بالناس لتشكيل حركة شعبية ضاغطة تفرض على هذه المجالس تنفيذ المشاريع الحيوية و تشكيل رقابة حقيقية على عملها . و عدم اعتبار مهمة الناس منتهية مع الانتخابات بل هي متواصلة ، و هذا يتطلب تفعيل الحركات الديمقراطية والثقافية والاجتماعية وتوحيد أسس العمل فيما بينها .
ما زال الوضع الاقتصادي يشهد حالة من التردي والتراجع والركود وهذا مؤشر خطير حذرنا منه دائما . إن بلدا صغيرا مثل لبنان وصلت ديونه إلى حدود 17 مليار دولار ولم تنجز من عملية بناء وتأهيل بنيته التحتية إلا جزءا بسيطا معنى هذا انه عاجزا عن الخروج من المأزق الاقتصادي . هذا ويستمر الهدر والنهب لمقدرات الدولة والسير بمشاريع الخصخصة المشبوهة وتفرض ضرائب جديدة على الناس ويتدهور مستوى المعيشة وتتراجع الحركة الاقتصادية ولم تتمكن السلطة من اجتذاب التوظيفات المالية من الخارج . لذلك نراها محكومة بمعادلة المزيد من القروض مقابل المزيد من الضرائب وهذا يعني مزيدا من الفقر والمعاناة ، مما يشكل خطرا على الوضع اللبناني مع اتجاه حركة السوق العقارية إلى البيع الخارجي ، أي لرساميل أجنبية ، مما يؤدي إلى تغيير ديموغرافي ويقلص رقعة الأرض المملوكة للبنانيين وقد أوصل البرنامج الاعماري والاقتصادي لحكومات الحريري البلد إلى كارثة حقيقية .
وكلما تأزم الوضع الاقتصادي والاجتماعي أكثر ستزيد السلطة من إجراءات القمع ومصادرة الحريات وإلغاء الديمقراطية ، و بدونها يصعب التحرك ، لذلك فالحريات والمطالبة بتعزيزها وتطويرها قضية نضالية أساسية ،كما يجب العمل على إعادة حقوق الحركة الشعبية والديمقراطية التي صادرتها السلطة وفي طليعتها حق التظاهر والتجمع والإضراب ، وضمان حقوق الفرد في التعبير وصيانة حقوق الإنسان ، والتأكيد على حق الطبقة العاملة والجماهير الشعبية والحركات الديمقراطية والثقافية بالتعبير عن حقوقها وقضاياها بالأشكال النضالية المشروعة وكذلك التأكيد على استقلالية الحركة النقابية ومنع التدخل في شؤونها والضغط على السلطة لتصديق الاتفاقات الدولية المتعلقة بالحرية النقابية والالتزام بها .
وكما في كل مأزق ، تلجأ السلطة إلى استعمال سلاح التحريض الطائفي والمذهبي والعشائري لتفتيت وحدة الحركة الشعبية ، وقد استعمل هذا الأسلوب في الانتخابات البلدية ، مما يعيد أجواء البلد إلى حالة الانقسام والتشنج ويمكن أركان النظام من تنفيذ محاصصة طائفية ومذهبية لمقدرات البلد وإمكاناته ومؤسساته .
وتتعرض الصحافة المكتوبة لعملية ضغط جديدة بعد حادثة الصفع لأحد الصحافيين إلا إن ما نخشاه هو أن تشكل هذه الحادثة مقدمة لتدخل الحكومة في أمور الصحافة المكتوبة وسن قانون خاص بها يقيدها ويقمع دورها بحجة تنظيم الصحافة ، بعد عملية المحاصصة في الإعلام المرئي والمسموع . ومع معرفتنا ووعينا لتوجهات السلطة بقمع الحريات ، قد تفتح هذه الحادثة ملف الصحافة بحجة أن الرقابة الذاتية غير مجدية ولا بد من تنظيمها بقانون جديد مما يقضي على البقية الباقية من حرية الصحافة .
نحن نقدر عاليا دور المقاومة واستمرار عملها في مواجهة العدو الصهيوني ، هذه المقاومة التي دفعت العدو إلى التفكير جديا بالانسحاب من الجنوب وأجبرته على الرضوخ لشروط التبادل وإطلاق سراح الأسرى وإعادة جثث الشهداء الأبطال وان هذه المقاومة الباسلة في عملها البطولي متناغمة في الوقت نفسه مع الانتفاضة في الأرض الفلسطينية المحتلة مما يزيد من إرباك العدو الذي يسعى إلى تحقيق بعض الشروط الأمنية بالانسحاب من لبنان ، لذلك يلجأ إلى سياسة الضغط على لبنان من خلال توتير داخلي بتنفيذ تفجيرات وعمليات تخريب تستهدف زعزعة الوضع الأمني وضرب أسس الوحدة الشعبية وإثارة عوامل الشرذمة والتفتيت والتي تم كشفها عبر اعتقال شبكات العملاء مؤخرا مما يستلزم الحذر الشديد والتخلي عن سياسة التوتير الطائفي والمذهبي التي تعتمدها السلطة وتغذيها في مختلف الميادين، وبرغم التطمينات والمواقف التي يعلنها أركان الدولة حول رفض الشروط الإسرائيلية والترتيبات الأمنية إلا انه يجب التحذير باستمرار من الوقوع في الفخ الإسرائيلي لأن ذلك لن ينتج إلا 17 أيار جديد . كما يتم الكلام عن تحويل لجنة المراقبة في الجنوب إلى لجنة أمنية ومع خطورة هذا الأمر ورفض البعض له إلا أن التطورات السياسية والعسكرية وخاصة في الجنوب وطبيعة السلطة لا تدعنا نثق باستمرار موقفها الرافض في ظل الضغط الأميركي عليها ، لذلك علينا توحيد الرؤيا والجهود مع القوى التي تعارض أي حلول تكون على حساب المقاومة وقضية التحرير .