الوضع الدولي
ما زالت الأزمة الاقتصادية العالمية تعصف داخل النظام الرأسمالي العالمي وعبرت عن نفسها بشكل حاد في دول جنوب شرق آسيا التي شهدت في السابق معدلات نمو عالية و تطويرا”في مجال الصناعة والتجارة الدولية مما أدى إلى طفرة مالية.
إلا أن هذه المرحلة لم تطل إذ أدت المضاربات المالية الكبرى وخشية الإمبريالية الأميركية من أن يشكل هذا التطور الاقتصادي مدخلا” لاقتصاد وطني قوي وغير تابع كليا في هذه الدول إلى انهيار سريع في الأوضاع الاقتصادية وتحولت في فترة قصيرة قياسية إلى دول ذات اقتصاديات متعثرة وتعتمد على مساعدات المؤسسات المالية العالمية.
وحتى اليابان، الدولة الرأسمالية المتطورة ذات الاقتصاد المتين شهدت بدايات أزمة اقتصادية حادة كادت تصل إلى حد الكارثة لولا قوة الاقتصاد الياباني وتدخل أميركا لإيقاف التدهور عند حدود معينة.
هذه الظواهر تشير بوضوح إلى هشاشة التكوين العام للنظام الرأسمالي العالمي الذي يمر دوريا” بأزمات اقتصادية شديدة تؤدي إلى تراجع في النمو أو ركودا اقتصاديا، غير أن طبيعة الإمبريالية وسياساتها تحمل الطبقة العاملة العالمية والشعوب الفقيرة عبء هذه الأزمات بزيادة معدلات النهب والاستغلال والتحكم.
ومع تفجر الأزمات في الدول الآسيوية بادرت الإمبريالية الأميركية إلى محاولة الحد من تفاقمها عند حدود معينة تحددها هي تبعا” لمصالحها من جهة، ومن جهة ثانية الاستفادة القصوى من الأزمة الآسيوية لمصلحة نمو الاقتصاد الأميركي0 إذ ليس من مصلحتها كأقوى دولة رأسمالية أن يحصل انهيار شامل لبعض أطراف النظام الرأسمالي العالمي لأن ذلك لا يمكن إلا أن يؤدي إلى انعكاسات سلبية على الاقتصاد الأميركي نفسه.
وفي محاولتها الحد من تأثيرات الأزمة الاقتصادية العالمية وخاصة في الدول الآسيوية فرضت الولايات المتحدة شروطا” اقتصادية جديدة على هذه الدول لتقييد حركتها وحريتها الاقتصادية وربطها أكثر تبعيا” بالرأسمال العالمي، مما يدل على الطبيعة الاحتكارية والتنافسية للنظام الرأسمالي العالمي،هذا النظام الذي تربط بين أطرافه علاقات تبادلية اقتصادية ومالية وتنافسا”بارزا” بين كتله الاقتصادية لتحسين شروطها ومواقعها فيما بينها وفي العالم كله، وإن كانت موازين القوى السياسية والاقتصادية والعسكرية تميل لمصلحة الإمبريالية الأميركية في الواقع الراهن0
وتقع تبعة الإجراءات الاقتصادية التي تتخذها الإمبريالية عالميا” لتعزيز دورها ونظامها الرأسمالي على الشعوب والبلدان الفقيرة، فتزداد عملية الضغط الاقتصادي والنهب المنظم للمواد الخامية ويجري إعادة اقتسام مناطق النفوذ والموارد الطبيعية والأسواق العالمية، لتهيمن الولايات المتحدة على الحصة الكبرى من كل ذلك0 كما تضغط لتسريع وزيادة حجم إنتاج المواد الخام والنفط لإغراق السوق وكسر أسعارها كونها المستورد الرئيسي لهذه المواد مع باقي الدول الرأسمالية الكبرى، مما يؤدي إلى مزيد من إفقار الشعوب ونهب ثرواتها من جهة، وتحقيق أرباح عالية للدول الرأسمالية من خلال إعادة تصنيع هذه المواد وإغراق أسواق الدول الفقيرة بالسلع المصنعة من جهة ثانية، مع التأكيد أنه يمنع على هذه الدول النامية امتلاك تقنيات وإمكانيات بناء صناعة شاملة تمكنها من تصنيع موادها الأولية لتبقى عرضة لتقلبات العرض والطلب في السوق الرأسمالي العالمي0
وما حصل في أسواق النفط من تدني كبير في أسعارها أدى إلى انخفاض مداخيل الدول المصدرة وأوقع اقتصادياتها وموازناتها في عجز كبير لمصلحة الرأسمال العالمي0 خاصة أن الدول المصدرة غير قادرة على التأثير في التجارة الخارجية النفطية بحكم تبعيتها للسوق وعدم قدرتها على التحكم بثرواتها أو تصنيعها، وبالكاد يسمح لها بتكرير النفط للسوق المحلي وبالتالي عدم قدرتها على التحكم بأسعار النفط هبوطا أو صعودا كما هو حاصل في المرحلة الراهنة 0إن مجمل هذه السياسة الإمبريالية هي مجرد عملية نهب منظمة ضد الدول والشعوب الفقيرة0
ونتيجة لمجمل السياسة الإمبريالية العالمية نشهد تدني كبير في مستويات المعيشة في دول العالم الثالث وازدياد وتفشي الأمراض والأوبئة وارتفاع نسبة وفيات الأطفال وانخفاض متوسط الأعمار وانتشار حالة التخلف والأمية وتدمير البيئة، ويترافق ذلك مع تمركز الاحتكارات واستفحال الجشع0 إن الطبقة العاملة العالمية والشعوب الفقيرة تتحمل أعباء جرائم النظام الرأسمالي العالمي وعبء أزماته الاقتصادية الدورية وترزح الدول النامية تحت وطأة الديون والتي لم تنفق لتطوير وتنمية أوضاعها، بل كانت تصرف على مشاريع غير إنمائية وغير إنتاجية وعلى شراء الأسلحة ولخدمة الديون نفسها0 وهذه الدول عاجزة كليا” عن إيفاء ديونها مما جعلها أكثر عرضة للضغوط الرأسمالية وبالتالي أكثر التحاقا” وتبعية لشروط صندوق النقد الدولي والدول الرأسمالية مما يؤدي إلى رهن استقلالها وسيادتها لإرادة الإمبريالية العالمية0 وهذا الوضع لا ينبئ بمستقبل مستقر لدول العالم ، في ظل اشتداد حالة الفرز والاستقطاب الطبقي على المستوى الدولي بين أكثرية الدول والشعوب التي تزداد أوضاعها فقرا” وتخلفا” وبين أقلية من الدول الرأسمالية والشركات الاحتكارية والمالية العالمية ،و لا بد أن يؤدي ذلك إلى تصاعد التحركات الجماهيرية، العفوية أو المنظمة في مواجهة الاستغلال الإمبريالي والأنظمة الفاسدة والتابعة التي تتحمل مسؤولية أساسية في انهيار الأوضاع الاقتصادية والمعيشية لشعوبها .
لذلك تسعى الإمبريالية الأميركية إلى تعزيز دورها القمعي وتنصيب نفسها شرطي عالمي لإخضاع الشعوب الفقيرة والمناضلة في مواجهة الاستغلال والنهب الإمبريالي، و تعمد إلى التواجد العسكري المباشر في مواقع عديدة من العالم لقمع الانتفاضات الشعبية وحماية الأنظمة العميلة لها وملاحقة حركات التحرر والقوى الثورية وضرب الحركة الشيوعية العالمية الناهضة غير آبهة بما تتشدق به عن قضايا حقوق الإنسان والانعكاسات المدمرة لهذه السياسة على حرية الشعوب والسلم العالمي ،لأن البرنامج الإمبريالي يزداد حدة كلما ازدادت عملية القهر والتحكم الطبقي ضد الشعوب و القوى الثورية خشية رد فعلها ورفضها لهذا الواقع ومواجهته0
كما تهدف الاستراتيجية الأميركية إلى الإبقاء على بؤر التوتر في مواقع استراتيجية هامة في العالم لتبرير تدخلها العسكري الدائم فيها لمنع أي توحد شعبي في تلك المناطق وبث التفرقة والنزاعات الطائفية والمذهبية والقومية والاتنية ، وتفجير الصراعات فيما بينها ، تحقيقا” لسياستها القائمة على مبدأ فرض التجزئة والانقسامات ومنع إمكانيات التطور والتقدم لهذه الشعوب وضرب قدرتها على الممانعة والنضال ضد الإمبريالية.
وتشترك الصهيونية كحركة سياسية عنصرية معادية للإنسانية عالميا وكجزء أساسي من الإمبريالية العالمية في قهر الشعوب وقمعها، ومن الخطأ القول بوجود هيمنة صهيونية على السياسة الإمبريالية بل هناك مصالح وتوجهات وسياسات مشتركة ، خاصة دورها الأساسي في محاربة الحركة الشيوعية والأنظمة الاشتراكية تاريخيا” كونها النقيض الأساسي للنظام الرأسمالي العالمي0 وقد لعبت الصهيونية في الاتحاد السوفياتي، قبل انهياره وبعده ، دور بارز في ضرب ركائز النظام الاشتراكي والعمل على تأجيج العصبيات والصراعات بين الأقليات والقوميات، وملاحقة القوى الشيوعية في دول الاتحاد السوفياتي السابق بالتعاون مع الإمبريالية خارجيا” ومع العملاء والمأجورين والمافيا والرأسمال الطفيلي في الداخل ، لتقويض مقومات الدولة العظمى وربطها بتبعية كاملة سياسية واقتصادية وثقافية مع الإمبريالية العالمية.
لذلك تسعى الإمبريالية الأميركية ،من الاستفادة من الأزمات الدولية ولو على حساب بعض حلفائها الرأسماليين ، وطبعا” على حساب الشعوب الفقيرة ، لإبعاد شبح الأزمة الاقتصادية من الوصول لعقر دارها ولو إلى حين ولكن تقديرنا أن الرأسمالية العالمية لن تتمكن من تجنب حصول الأزمات نهائيا” بسبب حدة التفاوت الطبقي الذي يزداد يوميا”وبحكم الترابط المتزايد في حركة الاقتصاد العالمي والتي ستؤدي إلى انعكاس أي تراجع في حلقة من حلقات هذا الاقتصاد على سائر حلقاته الأخرى0
كانت الأمم المتحدة ومجلس الأمن قبل انهيار الاتحاد السوفياتي تخضع لتوازن دقيق بين النظام الاشتراكي العالمي والنظام الرأسمالي العالمي، مما كان يسمح إلى حد ما بصدور بعض القرارات التي تراعي مصلحة الشعوب والدول الضعيفة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي حصل خلل كبير في هذا التوازن إلى حد أصبحت معه الإمبريالية الأميركية تتحكم بدور الأمم المتحدة وقراراته، وبشكل خاص قرارات مجلس الأمن ،وبالتالي تمرير القرار الذي يتوافق مع سياستها وتعرقل كل ما يتعارض ومصالحها، بل وصلت الأمور إلى حد أن أي قرار أو مشروع قرار لا توافق عليه واشنطن مسبقا” يسحب من التداول ، وهذا ما حصل بالنسبة إلى لبنان حول العدوان الإسرائيلي الأخير في 25 حزيران، فقد أبدت الولايات المتحدة رفضها لتقديم شكوى لبنانية ضد إسرائيل فما كان من السلطة اللبنانية إلا أن تراجعت عن ذلك، وهذا ما يحصل مع سائر دول العالم.
هذه السياسة تدخل في صلب الإستراتيجية الأميركية لتهميش دور المنظمة الدولية وشل فاعليتها لمصلحة أحادية القرار الدولي المنوط بالإمبريالية الأميركية عبر حلف شمال الأطلسي، هذا الحلف الذي أنشأ لمواجهة الاتحاد السوفياتي والنظام الاشتراكي العالمي في أوروبا، وبعد تفجر أزمة يوغوسلافيا سعت الإمبريالية لجعل الحلف أداة تدخل وعدوان في العالم. ففي يوغوسلافيا تعمدت الولايات المتحدة تعقيد الأزمة، وطرحت قبل تفجرها الواسع صيغة حل لا تراعي مصلحة الأطراف المتصارعة كافة وذلك وصولا” للتدخل العسكري المباشر لتدمير اقتصاد يوغوسلافيا وبناها التحتية والصناعية، وبالتالي منعها من التطور والتقدم، ومن البقاء كدولة غير خاضعة للإرادة الأمريكية في منطقة البلقان، وعلى مقربة من روسيا. إن برنامج الحلف الأطلسي من التواجد في تلك المنطقة يهدف إلى تأجيج الصراعات وتفجيرها في منطقة البلقان ،عبر سياسة التطهير العرقي التي تشنها عصابات جيش تحرير كوسوفو على مرأى من القوات الأطلسية ،كما قد تقدم هذه القوات على التدخل في صربيا بحجة مساندة المعارضة اليوغوسلافية بهدف إسقاط ميلوسيفيتش ،كما قد تعمد لتحريض جمهورية الجبل الأسود للانفصال عن يوغوسلافيا الاتحادية.
ويجري التدخل الإمبريالي في روسيا تحت شعارات حرية الرأسمال واقتصاد السوق وبتواطؤ القيادة السياسية الروسية، وبإثارة الصراعات القومية والاتنية والحركات الانفصالية والتفجيرات الإرهابية، للدفع باتجاه المزيد من تفكيك روسيا وإضعافها أكثر كما حصل في الشيشان سابقا وفي داغستان حاليا ، لفرض سيطرة الرأسمال العالمي على بنية اقتصاد روسيا، وإضعاف وحدة شعبها وضرب الحركة الشيوعية والحد من تطورها، وصولا” للقبض على اقتصاد هذا البلد وتصفية ما تبقى من القطاع العام، للسيطرة لاحقا” على القدرات النووية الروسية.
إضافة إلى ذلك، هناك هدف رئيسي تسعى الإمبريالية الأمريكية لتحقيقه عبر تدخلها العسكري في البلقان وهو عرقلة الوحدة الأوروبية. فالدول الأوروبية جزء من النظام الرأسمالي العالمي، إلا أن توحدها يشكل حالة تنافسية مع الولايات المتحدة، على الأسواق العالمية وعلى مصادر النفط والمواد الخام، مما يضع هذا الاتحاد في حالة توازن عالمي مع أمريكا التي ترفض أن يشاركها أي طرف في الهيمنة على القرار الدولي.
بعد يوغوسلافيا، عملت الإمبريالية الأمريكية على تفجير قضية كشمير والصراع الهندي- الباكستاني، وهي قضية تاريخية يتم تحريكها كل فترة من قبل أمريكا ،لإشغال الهند في حروب دائمة لضرب قدراتها ومقومات تطورها لما تمثله من وزن اقتصادي وبشري، وامتلاكها صناعات ثقيلة وتقنيات حديثة، إضافة لامتلاكها السلاح النووي. وتخشى الولايات المتحدة من وجود بدايات تقارب بين الصين وروسيا والهند ،وان لم يكن ذو طابع اشتراكي، والذي يهدف لمواجهة التسلط والهيمنة الأمريكية الأحادية كما عبر عنه “اجتماع مجموعة شنغهاي” الذي أكد على رفض سياسة القطب الواحد وضرورة وجود أقطاب عالمية متعددة لتحقيق التوازن مع الإمبريالية الأميركية وصون السلم العالمي ،وتعبر عن خشيتها بإشغال الدول الثلاث بصراعات دائمة في تايوان ومنطقة القوقاز وكشمير لاستنزافها وتبرير تدخلها المباشر.
كما في آسيا كذلك في إفريقيا إذ تشهد بعض دول القارة تطورات وصراعات لخلق عوامل ومعطيات تسمح بالتدخل الأمريكي وبالتالي استغلال ونهب ثروات هذه الدول وفتح أسواقها الواسعة أمام الشركات الرأسمالية الأمريكية الكبرى لذلك تعرقل أمريكا الحلول المطروحة للكثير من الصراعات في السودان وأثيوبيا- إرتريا وفي أنغولا وتعطل كل المبادرات السلمية التي تطرحها المنظمات الإقليمية وبعض الدول الإفريقية.
تعزز الإمبريالية الأمريكية تواجدها العسكري المباشر في منطقة الخليج وتطيل أمد الحصار المفروض على العراق والعدوان عليه مع ما يسببه من خسائر بشرية واقتصادية. إن الاهتمام الأمريكي بهذه المنطقة يعود لأهميتها الاستراتيجية ولما تحويه من ثروات خامية وموارد نفطية تسعى للسيطرة عليها وحماية مصالحها السياسية والاقتصادية في المنطقة العربية، مما يستلزم الإبقاء على حالة التوتر وعدم الاستقرار، والإبقاء على عوامل الصراع بين دول المنطقة، ومنع أي تطوير للعلاقات بين دولها، وخاصة بين العراق وإيران، أو بين إيران ودول الخليج. إن قمع التوجهات الوحدوية العربية والإبقاء على أسباب الخلاف بين الدول العربية ومنع الوحدة هي من البرنامج الاستعماري القديم، وتنفذه أمريكا اليوم على قواعد حديثة عبر خلق عوامل مادية تجعل من الصعب وجود كتلة اقتصادية عربية موحدة والإبقاء على عوامل الخوف عند كل دولة من الدول الأخرى كي تشعر أنها غير قادرة على حماية استقرارها الداخلي إلا بحماية أجنبية وبالذات أمريكية، وبذلك تصبح الحماية الأمريكية شرط أساسي من شروط الاستقرار الداخلي لهذه الدول، لذلك سيستمر الوجود العسكري الأمريكي في المنطقة العربية إلى وقت طويل.
تعمل الإمبريالية العالمية على تطوير إمكانياتها وقدراتها بشكل دائم، كما تعمل على تطوير وسائل الاستغلال والتحكم والسيطرة على مقدرات الدول والشعوب. وما يسمى بالعولمة هو عبارة عن عملية تطور تاريخي للإمبريالية ونتيجة امتلاكها القدرات الاقتصادية التي أهلتها لتطوير كبير في مجال الاتصالات والمعلومات. إن هذا التطور من حيث الجوهر هو طبيعي كون المجتمعات ليست جامدة بل هي في حالة تطور دائم. إلا أن إنجازات البشرية توظفها الإمبريالية في إطار برنامجها المعادي للبشرية ولتطور الشعوب. وأدت العولمة إلى زيادة تدخل الولايات المتحدة باقتصاديات الدول وبثقافات الشعوب وبعاداتها وتقاليدها لمصلحة الثقافة الرأسمالية وقيم السوق والاستهلاك. وما إطلاق سمة العولمة على هذا التطور إلا محاولة للتهرب من مفهوم الإمبريالية العدواني والاستغلالي لمصلحة مفهوم آخر قد يبدو للبعض انه يؤشر للتطور والتقدم .وتحديد العولمة دون الفهم العلمي للإمبريالية وكامتداد لها تبدو كمن يعزل مفهوم الإمبريالية عن الرأسمالية العالمية وتطورها التاريخي ،كما أن الإمبريالية استطاعت في هذه المرحلة التاريخية ليس فقط احتكار اقتصاديات العالم وتوظيفها لمصلحتها ،بل احتكرت القوى الخلاقة والعقول المبدعة والاستفادة من إنتاجها العلمي والفكري ،مع العلم انه بالاستناد إلى بعض الإحصائيات في أميركا نجد أن نسبة عالية من المبدعين والمخترعين هي من أصول غير أمريكية شمالية بل من الوافدين إلى الولايات المتحدة ،وبالتالي خضع هذا الإنتاج للاحتكار الرأسمالي ووظفته في مصلحة الشركات الرأسمالية الكبرى وصناعة الأسلحة وفي شتى المجالات.
وتدخل صناعة الأسلحة وتطويرها في نطاق تدعيم اقتصاد الدول الرأسمالية عبر تجارة الأسلحة وخصوصا” في بؤر التوتر الموجودة أو التي تفتعلها الإمبريالية، لذلك نرى معظم دول العالم الثالث الخاضعة للإرادة الإمبريالية تشتري كميات هائلة من الأسلحة وتستنزف مواردها وموازناتها وموادها الخامية، وتقع تحت عبء الديون الثقيلة، بينما لا تستعمل هذه الأسلحة إلا في مجال قمع شعوبها في الداخل وخوض الصراعات والحروب مع دول مجاورة خدمة للإمبريالية وتدخلها المباشر.
هذا الوضع الدولي واستفحال العدوان الإمبريالي يتطلب تعزيز النضال الشعبي الجماهيري على صعيد العالم، وتعزيز دور الطبقة العاملة العالمية، والمؤسسات الديمقراطية في مواجهة الإمبريالية، كما يتطلب من الدول الاشتراكية خلق أشكال التنسيق والتوحد فيما بينها لخوض مواجهة مشتركة ضد سياسة الإستقواء والتفرد الأمريكي. ويعول بشكل خاص على تطور دور الصين عالميا”، وبرغم بدايات برنامج إصلاحي اقتصادي داخلي إلا أنه حتى الآن لم يمس جوهر النظام الاشتراكي، والوزن البشري والاقتصادي والسياسي والعسكري يؤهلها لإحداث توازن عالمي جديد لمصلحة الاشتراكية وقضايا الشعوب المناضلة في مواجهة النظام الرأسمالي العالمي. خاصة في ظل استمرار السياسة الأمريكية المعادية للصين والساعية إلى احتوائها بأساليب متعددة منها السعي لضمها إلى منظمة التجارة العالمية لتكبيلها اقتصاديا” بعلاقات الرأسمالية وبالتالي إلى التأثير تدريجيا” على بنية نظامها الاشتراكي.كما تضغط الولايات المتحدة عليها من وقت لآخر عبر تحريك قضية تايوان وتهديدها بالاعتراف الدولي بها لإجبار الصين على الخضوع للإرادة الأمريكية. والتهويل العسكري الذي عبر عنه بالقصف الأطلسي للسفارة الصينية في يوغوسلافيا لرصد رد الفعل الصيني والذي جاء عنيفا” وشاملا”من الدولة والشعب. إننا إذ نؤكد على وجود الصين واحدة موحدة بنظام اشتراكي، نؤكد على حق الشعب الصيني في توحيد أرضه وتحرير تايوان من الحماية الأمريكية لتعود إلى الصين كما عادت هونغ كونغ إلى الوطن الأم.
إن تشكيل جبهة عالمية في مواجهة الإمبريالية، بقيادة الحركة الشيوعية تضم الدول الاشتراكية وحركات التحرر، إضافة إلى روسيا والهند، سيكون لها تأثير عالمي كبير على مجمل نضالات الشعوب وتشكل عائقا” أمام السياسة الإمبريالية العدوانية، إن هذا التحالف العالمي يعزز أوضاع الدول المحاصرة مثل كوبا ويعطيها القدرة على تشكيل نموذج فعال في أمريكا اللاتينية وتوفر لشعوبها مناخات ملائمة للثورة والانتفاضات ضد أنظمتها العميلة وضد الإمبريالية الأمريكية ويعمق الصراع الطبقي في تلك الدول.
إن هذا التوجه يعيد الاعتبار إلى أهمية دور قوى الثورة العالمية المشكلة من الطبقة العاملة العالمية والأنظمة الاشتراكية وحركات التحرر، إذ لا مجال لعدالة اجتماعية واستقرار دولي وتطور هادئ للبشرية بدون نظام اشتراكي عالمي، والعالم بدون النظام الشيوعي يسير نحو مزيد من الانهيار والتخلف والفقر، ولن تتورع الولايات المتحدة عن استعمال كافة الأسلحة لديها لقمع الانتفاضات وحالات الاعتراض على سياساتها، ولولا وجود أسلحة نووية وكيميائية لدى قوى ذات وزن وفعالية في العالم متناقضة مع النظام الرأسمالي، لكانت الإمبريالية استخدمت أسلحة الدمار الشامل في مناطق عديدة من العالم ضد الدول والشعوب الرافضة لبرنامجها. وما زالت الكثير من أوساط الرأسمالية العالمية ومنظريها الرجعيين مقتنعين حتى اليوم بنظرية مالتوس التي تقول بالتخلص من زيادة عدد السكان ومن الفقراء بالحروب وإبادة البشرية. والإمبريالية لا تخشى الفقر، بل من ردة فعل الفقراء والطبقة العاملة في مواجهة استغلالها.
الوضع العربي
يشهد الوضع العربي أسوأ مرحلة في تاريخه المعاصر، فهو يهيأ منذ فترة طويلة لتقبل مشاريع التصفية والاستسلام، وعملت الإمبريالية جاهدة لتحضير الظروف الملائمة في المنطقة العربية لتتقبل الوجود الإسرائيلي بدور أساسي وليس هامشي، الدور الإسرائيلي الذي سيناط به قيادة ما يسمى بمنطقة الشرق الأوسط. هذه التسمية التي تعتمدها القوى المعادية للشعب العربي والتي جرى تكريسها في بعض المؤتمرات واللقاءات الدولية كمؤتمر شرم الشيخ، تهدف إلى طمس وتغييب حقيقة المنطقة العربية أو الوطن العربي. هذا الدور الاستعماري القديم- الحديث الذي سعى إلى تفتيت المنطقة العربية وتقسيمها لمنعها من التوحد وامتلاك حريتها بالاستفادة من ثرواتها الخامية والبشرية، لتهيئة المناخ أكثر لدور إسرائيلي مؤثر في قلب هذه المنطقة. وقد عرف الشعب العربي في المراحل السابقة حالة نهوض وتطور في الوعي الشعبي ونضالات مهمة في مواجهة الاستعمار والإمبريالية والصهيونية، وفي مواجهة أنظمتها التابعة، وقامت العديد من قوى وحركات التحرر في المنطقة لنيل الاستقلال السياسي والاقتصادي، وخاضت كفاحا” مسلحا” ضد الاحتلال الصهيوني لفلسطين، وفي مواجهة العدوان والإرهاب الإسرائيلي، مما شكل في تلك المرحلة تحديا كبيرا للإمبريالية وللوجود الصهيوني في المنطقة ،إلا أن عوامل الانقسام والخلافات كانت تبرز بحدة لتؤثر على وحدة القوى الشعبية والمناضلة وبالتالي على وحدة الأهداف والتوجهات وعلى تطورها.
في نفس الوقت كانت الإمبريالية العالمية تقدم المساعدات الهائلة، ماديا” وعسكريا” للكيان الصهيوني لتفعيل دوره في المنطقة بهدف قديم جديد وهو تحقيق التفوق العسكري الإسرائيلي على كل الدول العربية، وبالفعل طورت ترسانتها العسكرية وأمدتها بالسلاح النووي، بينما كانت تسعى لعرقلة تزود الدول العربية بالسلاح. ولكن في مرحلة وجود الاتحاد السوفياتي تمكنت غالبية الدول العربية من كسر حظر الأسلحة ضدها وزودت بالأسلحة المتطورة وبالتقنية العسكرية السوفياتية مما شكل انعطاف حاد في تلك المرحلة، ودفع الإمبريالية للوقوف موقف المتخوف والمترقب لهذا الأمر بانتظار اللحظة التي تتمكن فيها من ضرب القدرات العسكرية العربية مجددا”. كما استخدمت الولايات المتحدة في تلك المرحلة سلاح الفيتو في مجلس الأمن لحماية إسرائيل من أي قرار إدانة على اعتداءاتها ضد الدول العربية .واليوم تقوم الإمبريالية والصهيونية بحملة مركزة ضد سوريا لإلغاء صفقة السلاح مع روسيا والتهويل حول سعيها لتطوير سلاحها الصاروخي ،في نفس الوقت الذي تم فيه تزويد الكيان الصهيوني بالطائرات الأميركية الحديثة والمتطورة والغواصات النووية.
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي بدأت الأوضاع العربية بالتدهور، وتراجعت مستويات المواجهة ضد الإمبريالية وإسرائيل، وازداد الدور القمعي للدول العربية ضد شعوبها وحركاتها الوطنية والثورية والديمقراطية، وضربت الحريات السياسية والديمقراطية في معظم الدول العربية، وهذه معادلة إمبريالية دقيقة، كي تتمكن من إجهاض حركات التحرر وإضعاف الزخم في حركة النضال الشعبي في مواجهتها وفي مواجهة العدو الصهيوني لا بد لها من تعزيز دور القوى القمعية والديكتاتورية العربية في مواجهة شعوبها، والقضاء على مساحات الحرية والديمقراطية في بلدانها. وهذا الأمر يتلازم مع الدعم العسكري والمادي لإسرائيل.
هذا التوجه الإمبريالي يتفق تماما” مع سياسات البرجوازيات العربية الحاكمة والتي تخشى من تطور الوعي الشعبي الجماهيري، لذا تتفق مع الإمبريالية بضرورة القمع الداخلي ومنع إقامة مشاريع التنمية الداخلية والتحرر الاقتصادي والسياسي .
وقد وصلت الخلافات والانقسامات العربية إلى حد تهميش دور الجامعة العربية، والتي كان لها في السابق شأن في المعادلة السياسية العربية والدولية، حتى بات من الصعب عقد اجتماع لها إلا بإيحاء من الولايات المتحدة وبالتالي فإن ما يصدر عن هذه الاجتماعات تبدو البصمات الأمريكية واضحة عليه. كما بات من المتعذر عقد لقاء قمة عربية لشدة الخلافات بين الدول العربية وكثرة المشاكل فيما بينها مما وفر ذريعة للإمبريالية للتدخل أكثر في الشؤون العربية بحجة الحد من الخلافات والتوفيق بين الأطراف المتخاصمة.
رغم هذا الواقع ما زلنا مع الحد الأدنى من التضامن والتنسيق العربي تحت عناوين رئيسية محددة تتعلق بالتطور الاقتصادي والسياسي المستقل للمنطقة، وبحرية شعوبها في النضال ضد الإمبريالية والصهيونية، وفي موقف واضح داعم لنضال الشعب الفلسطيني ولقضيته العادلة. غير أن ما يصعب هذا الهدف هو دخول بعض الدول العربية في عملية التسوية مع إسرائيل، والبعض الآخر استبق التسوية الشاملة وعقد اتفاقات منفردة مع العدو، أو هرول نحو التطبيع الكامل مع إسرائيل مستبقا” حتى التسوية السلمية المطروحة.
والوضع الفلسطيني الذي كان ولا يزال يشكل المحور الرئيسي في محاور الصراع العربي- الصهيوني شهد تهافتا” سريعا” في التوقيع على تسويات مذلة ومجحفة من قبل قيادة اليمين الرسمي تحت شعار أن إسرائيل أصبحت أمرا” واقعا”، وتهاوى الموقف الرسمي العربي الرافض لوجود إسرائيل، خاصة بعد توقيع مصر اتفاقيات كمب دايفيد، والتوجه الإمبريالي- الصهيوني لاستفراد الأطراف العربية مع خلق الصعوبات والمشاكل في أوضاعها الداخلية لدفعها إلى الاستسلام.
غير أن التركيز الأمريكي- الإسرائيلي بقي منصبا” على الوضع الفلسطيني، كونه محور حركة الصراع، وكون إسرائيل تقوم على الأرض الفلسطينية. وقوبل هذا التوجه باستعداد القيادة البرجوازية الفلسطينية للركض وراء التسوية. نحن حددنا في السابق، وقبل خروج منظمة التحرير من بيروت، إن قيادة اليمين سعت للتفاوض مع العدو مع عملية تضليل واسعة تقوم على أن الشعب الفلسطيني منبوذ عربيا” ومحاصر دوليا”، وابتدعوا شعار قطرية الصراع، وقد لقي هذا المنطق قبولا” لدى بعض الأطراف العربية مما دفع باليمين الفلسطيني على رأس منظمة التحرير الفلسطينية إلى السير قدما” في تنازلاته وتفريطه بالحقوق الفلسطينية.
وليس صحيحا” أن ما حصل هو قدر الأمة العربية، ولو بقيت حالة الرفض الفلسطيني للتسوية المطروحة كان يمكن لها أن تنتزع شيئا” من التضامن العربي وتحديدا” على المستوى الشعبي، ولبقيت إمكانيات عرقلة التسوية الاستسلامية قائمة لوقت طويل قد تحدث خلاله تغييرات دولية وإقليمية تعيد التوازن أو شيئا” من التوازن المفقود.
غير أن استعجال قيادة البرجوازية الفلسطينية في الاستسلام وتقديم التنازلات أفقد الحركة الشعبية والوطنية العربية الكثير من قدرتها على الحركة والنضال، كما وفر مبررات لبعض البرجوازيات العربية الحاكمة لتسريع استسلامها والدخول في تطبيع كامل مع إسرائيل. وقد انعكس ذلك حتى على المستوى الدولي من حيث حجم التأييد للشعب الفلسطيني وحقوقه من جهة ومن حيث الموقف الرافض للعدوانية والتوسعية الصهيونية من جهة أخرى .مجمل هذا الوضع اثر على موقف اليسار العربي والفلسطيني وأضعفه ووضع بعض أطرافه في حالة التحاق بركاب مسيرة الاستسلام بحجة عدم القدرة على إيقاف هذه المسيرة وبالتالي فالالتحاق بها لا يرتب عليهم مسؤولية التوقيع على أي اتفاق مما أثر أكثر على مستوى النضال الشعبي والديمقراطي العربي بشكل عام.
من هنا نشهد إلى جانب تعزيز وتطوير القدرات العسكرية والاقتصادية للكيان الصهيوني تواجدا” عسكريا” أمريكيا” مباشرا” في المنطقة، وتقديرنا أن هذا التواجد ستبقى ذرائعه موجودة، مما زاد من حجم دور العدو الصهيوني وتحقيقه التفوق العسكري على كل الدول العربية، إذ أن حجم وأهمية المصالح الاستراتيجية الإمبريالية تفترض التواجد العسكري المباشر، وليبقى الدور الإسرائيلي في هذا المجال احتياطيا” فاعلا” ومكملا” للدور الأمريكي، كون الكيان الصهيوني قاعدة متقدمة للإمبريالية تحمي مصالحها وتهدد أمن واستقرار المنطقة ولمنع الشعب العربي من التوحد والتطور. بالإضافة لإنجازها مشروع الحلف التركي-الصهيوني ليشكل تهديدا دائما للمنطقة العربية وحرمانها من حقها في المياه واستمرار العدوان ضد العراق وتشديد محاولات تصفية القضية الكردية بارتكاب مجازر الإبادة والتهجير بحق الشعب الكردي وتجاهل النظام الفاشي التركي كل المبادرات السلمية التي أطلقها حزب العمال الكردستاني لوقف الحرب وإصراره على استمرار حملته العسكرية لإبادة الشعب الكردي والتنكر لحقوقه السياسية والثقافية والوطنية.
وحتى في حال حصول تسوية مغلفة بشعارات السلام، لن يكون هناك استقرار للمنطقة العربية وسيستمر العدوان الصهيوني ضد الشعوب وحركات التحرر، بل سيتوسع القمع ضدها بتنسيق أمني مخابراتي صهيوني- أمريكي- عربي، كما يحصل على الساحة الفلسطينية في الأرض المحتلة. فالاتفاق الفلسطيني- الإسرائيلي في واي ريفر قضى بالتعاون المخابراتي بين السلطة الفلسطينية والموساد والمخابرات المركزية الأمريكية لملاحقة المناضلين والوطنيين في الأرض المحتلة، وهذا النموذج سيعمم بعد إنجاز التسويات الأخرى، لأن الولايات المتحدة لم تعد تثق بقدرة الدول التابعة على تحقيق أهدافها بقدراتها الذاتية، وهذا الأمر سيصعب المواجهة والنضال مما يفرض أشكالا” جديدة ويقظة عالية لتجنب هذه الأخطار في المرحلة المقبلة.
وستركز الإمبريالية الأمريكية مستقبلا” على تحقيق اختراق إسرائيلي واسع للاقتصاد العربي والشرق أوسطي لربطهما بالاقتصاد الرأسمالي العالمي أكثر مما هو قائم، ولضرب أي استقلالية نسبية للاقتصاديات المحلية، مما يخلق واقعا” ماديا” يسهل التغلغل الصهيوني السياسي والاقتصادي في الدول العربية وعرقلة إمكانية أي توحد سياسي- اقتصادي عربي مستقبلا”. ويعبر عن هذا البرنامج الإمبريالي- الصهيوني باللجان متعددة الأطراف التي شكلت بعد مؤتمر مدريد والمتخصصة ببحث مواضيع دقيقة وحساسة كاللاجئين والمياه وأسلحة الدمار الشامل… مما يضعف المناعة العربية ويعرض الأمن الاجتماعي والغذائي والسياسي العربي للخطر.
وانطلاقا” من كون إسرائيل كيانا” مزروعا” في المنطقة بمهمة إمبريالية، وكقاعدة عسكرية متقدمة لها وخادمة لمصالحها فإن برنامجها هو برنامج العدوان والتوسع والسيطرة وليس برنامج التعايش السلمي مع محيطها، لذلك ترى الإمبريالية أن تحقق نوع من الاختراق والتدخل الإسرائيلي في الأوضاع السياسية والاقتصادية العربية أمرا” يجعل من الصعب لاحقا” انهيار هذا الكيان وإزالته من الوجود ككيان عنصري صهيوني.
إلا أن إدراكنا لحالة العداء الشعبي العربي للكيان الصهيوني ووجود القوى الوطنية والتقدمية والثورية سيجعل مهمة الإمبريالية صعبة جدا” إن لم تكن مستحيلة، وستبقى عملية المواجهة ضد هذا الكيان طالما بقي قائما”. ولن يتحقق سلام حقيقي إلا بإقامة دولة اشتراكية في فلسطين تحقق الديمقراطية الشعبية وتؤمن حق العيش لكل الاقليات والأديان على أساس الحق التاريخي للشعب الفلسطيني في أرضه.
إلا أن البرنامج الإمبريالي يركز على إبراز الهوية الشرق أوسطية للمنطقة بدلا” من الهوية العربية وتشارك البرجوازيات العربية الحاكمة بالترويج لهذا المفهوم. نحن ضد التعصب الشوفيني القومي الأعمى ومع الوصول إلى الوحدة العربية السياسية والاقتصادية على أساس الاشتراكية العلمية وتحقيق العدالة الاجتماعية وحق تقرير المصير، وبقدر ما يتعزز الاستقلال السياسي والاقتصادي عن الإمبريالية، والعمل لتطوير برامج ومشاريع التنمية الداخلية والاعتماد على الإنتاج الصناعي والزراعي، والتطوير التقني لمختلف النشاط الاقتصادي، بقيادة شعبية مخلصة، بقدر ما تتوفر إمكانية تحقيق برنامج وحدوي عربي حقيقي.
واليوم تروج الولايات المتحدة لسياسات باراك بتصويره داعية سلام مع العرب، وتبدي دعمها الكامل له، في مقابل موقف أمريكي سابق تعمد عدم الدفع بتوجهات نتنياهو أكثر مما حصل، للتستر وراء تصلبه لفرض تنازلات جديدة على القيادة الفلسطينية، فاستمر في تلك المرحلة بناء وتوسيع المستوطنات، وعدم الالتزام بتنفيذ ما تبقى من اتفاقات أوسلو والخليل مما فرضه على الجانب الفلسطيني الدخول في اتفاق واي ريفر الأكثر إجحافا” من الاتفاقات السابقة، وقطعت أوصال منطقة الحكم الذاتي بالطرق الالتفافية لربط المستوطنات ببعضها، وكثفت إسرائيل من تواجدها العسكري في تلك المنطقة بحجة حماية المستوطنات وجرى تطويق القدس بمزيد من المستوطنات ومصادرة الأراضي. جرى كل ذلك تحت شعار تصلب نتنياهو وعجز الإدارة الأمريكية عن الضغط والتأثير عليه لإعطاء انطباع عن الحياد الأمريكي.
لذلك وضعت المنطقة العربية في حالة انتظار للانتخابات الإسرائيلية. ومع مجيء باراك إلى السلطة في إسرائيل كثر الحديث الأمريكي والعربي عن استئناف المفاوضات وعن نوايا باراك السلمية، بينما أكد هو غداة انتخابه على نفس ثوابت موقف نتنياهو حول القدس وحق العودة والمستوطنات. إن هذه الثوابت هي الأهداف والمواقف الدائمة للكيان الصهيوني ولا يخرج على جوهرها أي حزب أو مسؤول إسرائيلي وإن كان بعضهم يطرحها بلغة مرنة أكثر من غيره. وما يزيد على تأكيد هذه المواقف- الثوابت هو أنها ليست إسرائيلية فقط، بل هي أهداف إمبريالية منوط بالكيان الصهيوني تنفيذها. هذا الوصول لباراك إلى السلطة مع حملة الترويج “السلمي” له أدت إلى تهافت عربي على التطبيع وإقامة العلاقات مع العدو الصهيوني عبر المصافحات واللقاءات المباشرة وغير المباشرة مع قادته ،إن هذا الموقف لبعض الدول العربية هو استسلام مجاني للعدو ويحاول تضليل الشعب العربي بأن باراك رجل السلام وسيحقق ما رفض نتنياهو تحقيقه.
إن خطورة عملية السلام التفاوض العربية- الإسرائيلية تأتي في ظل الاختلال الكبير في موازين القوى العالمية والعربية مما لن يسمح للعرب بتحقيق أي مكاسب من خلال التسوية، وإن الشعار المرفوع حول السلام العادل والشامل والدائم هو شعار غير ممكن، لأن المطروح ليس سلاما” بل نوع من التسويات الجزئية، ولن توافق إسرائيل على أي اتفاق يلزمها ببعض الشروط المتعارضة مع مصالحها وهذا ما حصل في الاتفاقات مع القيادة الفلسطينية، إذ أنها تعود وتنقضه في ظروف أخرى. إنها تسعى إلى استسلام عربي تحقق من خلاله ما عجزت عنه سابقا” في اختراق المجتمع العربي. من هنا يجب التأكيد أن المواجهة ليست محصورة مع العدو الصهيوني، بل مع الإمبريالية الأمريكية، وأي فصل في المواجهة بين الطرفين يخدم الأهداف الإمبريالية والصهيونية معا”.
ورغم هذا الواقع الصعب، يبقى لدى الشعب العربي وقواه الثورية والتقدمية والقومية إمكانية استمرار المواجهة لإفشال قسم كبير من أهداف التسويات المفروضة.، ويجب التعويل على الهوامش المتبقية من إمكانيات الحركة والصراع لتعزيزها ومراكمتها، والاستفادة من الفرص المتاحة لتفعيل التعبئة الشعبية في مواجهة العدو الصهيوني والإمبريالية الأمريكية لأن ذلك يتعلق بمستقبلنا كمنطقة عربية وكشعب عربي.
الوضع اللبناني
إن النظام الاقتصادي والسياسي اللبناني القائم على أساس الطائفية والمذهبية وعلى حرية رأس المال في الاستغلال والاحتكار لم يخلف طوال المراحل السابقة إلا المزيد من تدني المستوى المعيشي وتفاقم حالات الفقر والعوز لأغلبية الشعب ومزيدا من سيطرة قلة رأسمالية لا تتجاوز 2% على معظم الاقتصاد اللبناني وعلى الدولة في مواقعها ومفاصلها الأساسية ،وعلى الرغم من أهمية نضالات الطبقة العاملة والجماهير الشعبية المتواصلة وتحقيق المكاسب المتعددة في كافة المجالات ،إلا أنها لم تستطع إحراز تغييرات سياسية جذرية لان البرجوازية والقوى الطائفية المسيطرة كانت كلما اهتزت مصالحها الطبقية ومواقعها الطائفية تلجأ إلى افتعال اقتتال طائفي ومذهبي وصولا لتفجير الحروب الأهلية مدعومة من قبل الرأسمالية والصهيونية العالمية. إن الدور النضالي للطبقة العاملة والممثلة بقواها الثورية والمتحالفة مع كافة القوى الوطنية والديمقراطية اللاطائفية كفيل بإعادة وضع الصراع على أساسه الطبقي والسياسي السليم.
لقد تعرض الوضع اللبناني، من ضمن المنطقة العربية، لبرنامج إمبريالي- صهيوني هدف إلى تهميش وإضعاف دور لبنان الاقتصادي وإمكاناته الإنتاجية، وبالتالي إضعاف دوره الذي كان يتمتع به في مرحلة ما قبل الحرب الأهلية، لمصلحة دور جديد يتوافق مع التوجهات الإمبريالية والصهيونية، لذلك عملت الحكومات السابقة على تطبيق برنامج اقتصادي- سياسي تغيب عنه عمدا” أي إجراءات أو توجهات لبناء اقتصاد إنتاجي متطور يحفظ للبنان موقع مؤثر في المرحلة القادمة. وقد ركز هذا المشروع على بعض المشاريع الإنشائية تحت شعار إعادة إعمار وتأهيل البنية التحتية، كونها دمرت وتعطلت خدماتها غير أنه أنفق في سبيل ذلك مليارات الدولارات مما لا يتماشى مع قدرات لبنان الاقتصادية والمالية. وقد هدر من الأموال أكثر مما صرف على عملية البناء الفعلية مما حمل الخزينة وبالتالي الشعب اللبناني أعباء مالية واقتصادية تفوق قدرته على التحمل في الوقت الذي لم ينجز من هذه المشاريع إلا قسم قليل بتكلفة عالية.
وكانت السياسة الاقتصادية لحكومات الحريري تأتي على حساب أولويات ملحة لبلد خارج من الحرب كالتعليم والاستشفاء والسكن وتأمين فرص العمل إضافة إلى تطوير القطاعات الاقتصادية المنتجة. وهذا الأمر لا يدل على رؤية اقتصادية سليمة لتطوير القدرات الاقتصادية بعد التدمير الذي لحق ليس فقط بالبنية التحتية في الحرب، بل الدمار الذي أصاب بنية الاقتصاد من خلال ضرب المصانع والمعامل ومعظم الاقتصاد المنتج. لذلك كان من المفترض وضع خطة اقتصادية تكاملية وشاملة تلحظ ضرورة إعادة النهوض بمختلف فروع الاقتصاد وأن يعاد بناؤها بما يتوافق مع برنامج مدروس وعلمي يأخذ في الاعتبار الحاجات الداخلية والدور الخارجي المطلوب القيام به ردا” على ما يخطط إمبرياليا” وصهيونيا” للبنان والمنطقة العربية.
في نفس السياق تم الدفع بالقطاع العقاري للنمو ووظفت فيه استثمارات أكثر من الحاجة الطبيعية التي يتطلبها الوضع اللبناني، مما أدى بهذا القطاع إلى التضخم الهائل وزاد عدد الشقق والمباني المنجزة وغير المشغولة، بينما ساد إهمال متعمد لمشاريع إسكانية شعبية يستفيد منها الطبقات الفقيرة، لذلك نشهد أزمة فعلية متفاقمة في قطاع الإسكان.
وقد بني مشروع الحريري على أساس أن “السلام” مع إسرائيل قريب وبالتالي يجب تهيئة الوضع اللبناني للدخول في هذا “السلام” حسب الدور المرسوم له أمريكيا” وإسرائيليا”، ونحن نرى أن ما يتم التحضير له هو استسلام كامل وفرض تسوية على المنطقة وبالتالي هذا الوضع لن يؤمن أي امتيازات اقتصادية للبنان خاصة إذا كان اقتصاده الإنتاجي معطل وبالتالي عاجز عن تأمين أبسط الاحتياجات الأساسية للشعب اللبناني، إنما سيكون مكملا” أو متلائما مع البرنامج السياسي والاقتصادي الإمبريالي والصهيوني في المنطقة العربية والشرق الأوسط. وأصحاب هذا المشروع يدركون أن لبنان وعلى أساس التسوية الاستسلامية عاجز عن فرض نظام اقتصادي موجه ومتطور يأخذ دوره بشكل طبيعي في المنطقة والعالم.
هذا الواقع انعكس سلبا” على المستوى الاجتماعي والمعيشي لغالبية الشعب اللبناني وأثر على إمكانيات الصمود والمواجهة في الصراع ضد العدو الصهيوني، وعلى مستوى التماسك الشعبي والوحدة الوطنية، كما أثر هذا الواقع على الوضع الاقتصادي للبلد وأوقعه تحت مديونية بلغت عشرين مليارا وقد تصل نهاية العام إلى واحد وعشرين مليار دولار ذهب قسم مهم منها في عمليات الهدر المنظم ،وتراكم الدين بهذا الحجم في ظل اقتصاد إنتاجي معطل يعني الوصول إلى الكارثة الاقتصادية وهذا ما حذرنا منه سابقا”.
وترافق تنفيذ برنامج الحريري مع استشراء الفساد والمحاصصة الطائفية والمذهبية والمالية، واختزلت الترويكا كافة المؤسسات وحلت مكانها بحيث أصبحت القيادة الوحيدة للبلد كشكل لديكتاتورية البرجوازية الطائفية. وتعاطت السلطة حينها على أساس عدائها للشعب والخوف من توحده ،لذلك كانت جادة في إدخال التأثيرات الطائفية والمذهبية والمالية إلى مجمل المؤسسات الديمقراطية والنقابية والثقافية والرياضية، وعمدت إلى إجهاض دور النقابات العمالية وزعزعة وحدتها الداخلية، والتدخل في شؤونها بشكل مباشر ودائم عبر وزارة العمل والتدخلات السياسية، مما أدى لإرباك دور الاتحاد العمالي العام وإضعاف دوره على المستوى المطلبي والنضالي. وبتعطيل الأدوات الديمقراطية في مختلف المجالات أصبح من الصعب تحقيق الوحدة الوطنية وبرزت مقابل القوى الديمقراطية والوطنية والنقابية المقموعة قوى التمثيل الطائفي والمالي وبدل تعزيز الوحدة الوطنية حصل نوع من التلاقي بين مصالح القوى البرجوازية وممثلي الطوائف والمذاهب.
ركزت الحكومة الحالية في دفاعها عن الموازنة في مجلس النواب على أزمة المالية العامة مدعية العمل لمعالجتها عبر تخفيض عجز الموازنة والحد من الاستدانة وتعمدت تجاهل وجود الأزمة الاقتصادية من خلال التركيز على النتائج بدلا من تحديد الأسباب الحقيقية لازمة الاقتصاد اللبناني برمته.
في هذا السياق طرح موضوع الخصخصة، والذي حددنا موقفنا الرافض له منذ حكومات الحريري. إن القطاع العام مهم وحيوي لمصالح للشعب اللبناني، وكان هذا القطاع قبل الحرب يسير بشكل طبيعي ويتطور باتجاه إيجابي ولم يطرح في ذلك الوقت مشكلة عجزه وخسارته. وبيعه بثمن بخس يعني هدرا” لأموال الشعب الذي دفع ثمن تحقيقه من عرقه ودمه عبر التحركات النضالية والضرائب التي يتحملها، كما أن بيعه سيمكن شركات مالية احتكارية خاصة من السيطرة على هذا القطاع والتحكم بخدماته بأسعار مرتفعة لا تتحملها الفئات الشعبية. وبالتالي تعريض الخدمات الحيوية لعملية احتكار الرأسمال المحلي والعالمي والصهيوني من خلال تداول أسهم هذه الشركات بعد بيعها في أسواق البورصة مما يسمح للرأسمال الإمبريالي والصهيوني من الدخول إليها، فتصبح بنى الاقتصاد الخدماتي مرتبطة بالرأسمال الأجنبي المشبوه، وبذلك تفقد الدولة دور الرعاية الاجتماعية وتتحول إلى حامي للاستغلال والاحتكار الرأسمالي المحلي والعالمي، مع ما يرتبه ذلك من تأثير سلبي على الأوضاع الاقتصادية والمعيشية لغالبية الشعب اللبناني.
لذلك يجب النضال للحفاظ على القطاع العام وعدم المس به، والعمل على تطوير إنتاجيته وتخليصه من مراكز الفساد وإنقاذه من الوضع المتردي الذي هو فيه، وهذا الأمر لا نراه مستحيلا”، غير أن توجهات وشروط صندوق النقد والبنك الدولي تجاه الدول طالبة المساعدات المالية تفرض عليها بيع القطاع العام بحجة مساعدتها على خفض ديونها والحد من العجز الذي يعانيه هذا القطاع باستمرار.
إن شعار تخفيض الدين العام عبر بيع القطاع العام تدحضه الحقائق والواقع، إذ أن الدول المدينة وخاصة في العالم الثالث قد استجابت لنصائح المؤسسات المالية الدولية وخصخصت قطاعاتها لكنها لم تتمكن من خفض ديونها، بل هي تتراكم وتزيد. وإذا أخذت الدولة بهذا المنحى فإنها ستواجه نفس النتيجة، خسارة القطاع العام، عدم تخفيض الدين أو حتى فوائد الدين، ارتهان هذه القطاعات لاحتكار رأسمالي خاص إمبريالي وصهيوني. مما سيؤدي بدوره إلى نتيجة خطيرة وهي زيادة ارتباط النظام اللبناني، سياسيا” واقتصاديا” بمصالح الرأسمال العالمي، وبالتالي رهن القرار السياسي والاقتصادي بالكامل للإرادة الإمبريالية العالمية، حتى فيما يتعلق بالشؤون الداخلية اللبنانية.
في القطاع الصحي، هناك إهمال متعمد لهذا القطاع من قبل الدولة وخاصة في مجال تطوير المستشفيات الحكومية، والمفروض مواصلة النضال والضغط لتطوير القطاع الصحي والمستشفيات الحكومية للحد من تسلط واستغلال المستشفيات الخاصة للمواطنين ،وصولا” فيما بعد إلى توفير الخدمات الصحية المجانية لكل أفراد الشعب اللبناني، كون هذا القطاع وكلفته تشكل العبء الأكبر على الناس، مما يعطي فرصة كبيرة للمستشفيات الخاصة ولشركات التأمين المحلية والأجنبية لابتزاز المواطن. لذلك فالضمانات الصحية من الدولة قضية أساسية وتستحق الاهتمام اللازم، ولم نر أي برنامج جدي لحظته الحكومة لمعالجة أوضاع هذا القطاع بحيث تشمل الخدمات الصحية كافة الطبقات الشعبية. كذلك على مستوى الضمان الاجتماعي، فالمطلوب تطوير تقديمات الضمان بحيث يشمل ضمان الشيخوخة وإنشاء دور للمسنين وهذا أمر ضروري لأنه يتعلق باحترام الإنسان وتقديره بعد عمل وكدح طويلين في سبيل الوطن والمجتمع، وتأمين الاستقرار والاطمئنان على مستقبله.
وكما في القطاع الصحي كذلك في القطاع التعليمي، إذ لم تلحظ موازنة الحكومة أرقاما” ذات شأن لتطوير أوضاع الجامعة الوطنية والمدرسة وتفعيل دورهما وتطوير برامجهما ،وتطبيق إلزامية التعليم ومجانيته في كافة المراحل كونه يستنزف جزء كبير من مداخيل الفئات الشعبية، والنضال من أجل أن تصبح الجامعة الوطنية ذات مستوى تعليمي عالي ومستوفية كل الشروط الأكاديمية وتوسيع الكليات التطبيقية والعلمية كي تتمكن من منافسة الجامعات الخاصة في أسواق العمل تحديدا” ،وبالتالي ليصبح التعليم الرسمي أرقى من مستوى التعليم الخاص كما هو حاصل في معظم دول العالم
في موضوع الإسكان المطلوب من الدولة وضع برنامج إسكان واضح، وهو ما يفتقده برنامج الحكومة، يقوم على تسليفات وقروض مالية بشروط ميسرة وفوائد رمزية ولآجال طويلة، أو عبر إنشاء مشاريع إسكانية تنفذها الدولة وتبيعها لغير القادرين على تأمين مسكن بأقساط مريحة ولمدة طويلة مع تحديد من يحق له الاستفادة من هذه المشاريع. وإقرار قانون للإيجارات يحفظ حقوق المستأجرين ولا يجعلهم عرضة للتهجير الدائم وعدم الاستقرار حسب أهواء ومصالح كبار الملاكين العقاريين.
في موازاة ذلك تعتمد الطبقة البرجوازية الحاكمة سياسة متعمدة تقضي بعدم تنشيط وتطوير قطاعات الإنتاج الأساسية، الصناعة والزراعة والسياحة، وتغيب الخطط الاقتصادية للربط بين هذه القطاعات وتكاملها، في محاولة لمنع تشكل رأسمال وطني متحرر نسبيا من التبعية للرأسمال العالمي، كون هذه البرجوازية تقوم على الاقتصاد الريعي والعقاري وعلى المضاربات المالية والسمسرة. إن الاهتمام بالصناعة والزراعة والمشاريع المائية وتحقيق التنمية الفعلية في الأرياف هي سياسة تؤسس لاقتصاد وطني يتمتع بالقدرة على الصمود في مواجهة العدو الصهيوني، ويفرض للبنان دورا في محيطه والعالم غير الدور المرسوم له في إطار الحل الاستسلامي والشرق أوسطية .
في الموضوع الضريبي عمدت حكومات الحريري إلى رفع شعار لبنان جنة ضريبية بحجة تشجيع وجلب الاستثمارات الخارجية، فألغي مبدأ الضريبة التصاعدية، وتوسعت قاعدة الضريبة غير المباشرة وأعفيت الشركات الكبرى من الضرائب وعلى رأسها سوليدير، إلا أن ذلك لم يحقق استثمارات ذات شأن، كما لم ينعكس في مجال التطوير الاقتصادي. وقد رفعت الحكومة الحالية الحد الأقصى للضريبة من 10% إلى 15% وهذا التعديل الطفيف لم يغير من حقيقة النظام الضريبي الجائر والخادم لمصالح الشركات والاستثمارات والمصارف الكبرى والذي ما زال يحمل الطبقة العاملة والفئات الشعبية العبء الأساسي من واردات الدولة، مما ينعكس سلبا” على المستوى المعيشي.
إن الوضع الاقتصادي والمالي يدور في دوامة متواصلة، لذلك لا نتوقع تحسنا” في الأوضاع العامة في المرحلة المقبلة، ولا يمكن زيادة واردات الدولة إلا عبر رفع المستوى المعيشي والاجتماعي للشعب اللبناني. لذلك يجب إعادة النظر بمجمل البرنامج الاقتصادي والمالي للدولة والتركيز على نهوض القطاعات المنتجة وتأمين فرص العمل للحد من البطالة والهجرة إلى الخارج.
وشعار الجنة الضريبية الذي طرحته الحكومات السابقة، تبنته الحكومة الحالية بذريعة تشجيع الاستثمارات الأجنبية على التوظيف في لبنان. إن أي استثمارات وتوظيفات مالية لا تخدم الدورة الاقتصادية وتؤدي إلى تنشيط فروع الاقتصاد ونموها وتأمين فرص العمل وتحقيق التنمية الفعلية هي استثمارات تهدف إلى تشديد ظروف الاستغلال للفقراء والكادحين وتحقيق الأرباح السريعة على حسابهم. إن لعب الاستثمارات المالية الأجنبية دور إيجابي في خدمة الاقتصاد الوطني يشترط إعادة توظيف عائدات الاستثمار أو جزء منها في دورة الاقتصاد الوطني لتحقيق عوامل النمو والتشغيل والتطوير، مع تحديد القطاعات ذات الأولوية في التوظيف ويأتي في طليعتها القطاعات المنتجة.
لقد سارت الدولة في عملية الإصلاح الإداري، وقد تعثرت هذه العملية ورافقتها أخطاء وثغرات اعترفت بها الحكومة مما شكل حالة من عدم الارتياح الشعبي مع الإصرار على استمرار هذه العملية بوتيرة أسرع وشمولية أكثر. لذلك نشدد على ضرورة متابعة الإصلاح الإداري بجدية ليطال المسؤولين الكبار عن الكارثة للوصول إلى الإصلاح السياسي، إذ أن الإصلاح السياسي يحقق الاستقرار السياسي والاقتصادي ويفعل دور المؤسسات الرقابية. غير أن المحاسبة الجارية تتم بطريقة إستنسابية وعلى قضايا أقل أهمية من قضايا أخرى لم تثار حتى الآن، ومتابعة هذه العملية والتوسع بها لتطال كل المخالفين والمرتكبين، يطمئن الشعب اللبناني إذا لمس أن رموز الفساد والهدر والسرقة قد حوسبوا حتى الكبار منهم وان أمواله قد أعيدت إلى خزينة الدولة. وهذا الأمر يتطلب تحصين القضاء وتعزيز استقلاليته وقمع أية تدخلات سياسية في شؤونه. ويجب أن لا تستثني هذه العملية أي باب من أبواب الهدر، من صندوق المهجرين ومجلس الجنوب، إلى مجلس الإنماء والاعمار ولجنة الإغاثة العليا، واسترداد الأملاك البحرية.
في موضوع الإصلاح السياسي وتحقيق الديمقراطية، يأتي في الأولويات وضع قانون للانتخاب عصري وديمقراطي، إلا أن ما يتوفر من معلومات أولية حول مشروع القانون الذي تعده الحكومي يشير إلى قانون متلائم مع المناخ الطائفي والمذهبي وحسب مصالح المرجعيات الإقطاعية والسياسية والمالية والدينية، وهكذا قانون لا يرجى منه أي أمل في تعزيز الديمقراطية وتحقيق التمثيل الشعبي، ونحن حددنا موقفنا من هذا الأمر سابقاً ، ونؤكد عليه لجهة أن يكون لبنان دائرة انتخابية واحدة وتحديد سقف للإنفاق المالي وتحقيق مساواة في الدعاية الإعلامية وعلى أساس النسبية، وان يكون سن الاقتراع 18 عاماً. أن بعض الاقتراحات التوفيقية والتي قد تمهد لقانون انتخاب ديمقراطي تم تجاوزها ، كالاقتراح الذي يقول بإمكانية إجراء انتخابات على أساس النسبية والدائرة الواحدة لثلث عدد النواب والباقي يتم على أساس المحافظة كمقدمة لانتخاب كامل النواب على أساس الدائرة الواحدة بالتدريج. وبالتالي عاد الحديث إلى نغمة التوازنات الطائفية والمذهبية، والجدل حول حجم الدوائر بما يتفق مع التركيبة الطائفية والسياسية القائمة، مما لا يطمئن إلى إمكانية وصول مجلس نواب ممثل لأكثرية الشعب اللبناني ومدافع عن مصالحه بعيداً عن التأثيرات الطائفية والمذهبية.
إذا” لن يأتي القانون الجديد المتداول في الأوساط الرسمية ملبيا” للطموحات الشعبية، كما أنه ليس القانون الذي يعزز الانصهار الوطني ويمهد لإلغاء الطائفية بل هو المكرس لها. إن محاولة فرض التعليم الديني الإلزامي يهدد الوحدة الوطنية ويعيق إلغاء الطائفية الوارد في الدستور. وأي خطوة نحو إلغاء الطائفية يجب أن تترافق مع العلمنة الشاملة للدولة، إذ لا يمكن إلغاءها على قاعدة إبقاء المكتسبات الطائفية ومؤسساتها قائمة، وقد تتحقق العلمنة بخطوات متدرجة تتقدم مقابل تراجع وانحسار المناخ الطائفي والقوانين التي تحميه. لذلك فقانون الانتخاب قضية نضالية أساسية وعلى الحركة الشعبية والديمقراطية الانخراط فيها للوصول إلى قانون يلبي ولو جزئيا طموحات الشعب بالتطور والتقدم والعدالة الاجتماعية. وفي هذا المجال يتم الحديث عن قانون اللامركزية الإدارية، ورغم أن ما عرف عنه لا يصل “إلى المستوى المطلوب، غير انه قد يعطي مجالا” أوسع للمجالس البلدية لأخذ دورها وصلاحياتها في إدارة شؤون الناس والمساهمة في تحقيق المشاريع التنموية والخدماتية المحلية.
وموضوع الحريات موضوع رئيسي، إذ لم تكن الحريات في أي يوم هبة أو منحة من عطاءات السلطة في أي عهد، بل نتيجة تراكم نضالي لشرائح واسعة من الشعب اللبناني وخاصة العمال والطلاب والأحزاب السياسية التقدمية اللاطائفية والحركة النقابية وكافة المؤسسات الديمقراطية. وما تحقق في هذا المجال جزء من التاريخ النضالي للشعب اللبناني لا يمكن السماح بالمس به، لأنه ورغم الصعوبات والأزمات الاقتصادية والمعيشية يبقى هذا الهامش من الحريات مجالا” يوفر فرصة للعمال والفئات الشعبية في التعبير عن معاناتها وقضاياها والاحتجاج عليها وبالتالي في حالة تحرك دائم لتحسين أوضاعها ورفع مستواها الاجتماعي. كما أثر هذا المناخ النسبي من الحريات في تفعيل مواجهة العدوان الإمبريالي والصهيوني، ووجود المقاومة الشعبية والمسلحة في مواجهة القوة المتعددة الجنسيات، والانتصارات التي تحققت بإخراج المحتل من معظم الأراضي اللبنانية وإسقاط اتفاق السابع عشر من أيار.
وتفعيل الحريات والديمقراطية وتعزيزهما يفترض بالضرورة تعزيز دور المؤسسات الديمقراطية والنقابية والشعبية، وتفعيل الحياة الحزبية اللاطائفية ،وعلينا أن نكون في طليعة القوى المدافعة عن الحريات والديمقراطية وعن كافة المطالب العمالية والنقابية والشعبية، وإذا كانت بعض الحريات تمس اليوم أو تجري محاولات للمس بها فيجب التصدي لها ومواجهتها ،كتهديد عمال المصالح المستقلة ،وفي نفس الوقت يجب الحذر من جوقة القوى المعادية التي قمعت الحريات والديمقراطية في السابق وتحاول اليوم تصدر النضال دفاعا عن الحريات .لقد تعرضت الحريات العامة والديمقراطية على مدى ست سنوات من حكم الحريري لقمع شديد حيث منع التظاهر والتجمعات وقيد حق الإضراب ولوحق النقابيون وسجنوا وجرى التدخل السافر في الشؤون الداخلية للحركة النقابية والديمقراطية وطيفت الحركة الثقافية والاجتماعية والرياضية، كذلك يجب النضال من أجل نهوض الحركة الطلابية والشبابية لتأخذ دورها النضالي الفعال في تطوير الحياة الديمقراطية والسياسية، وأن يتحقق للمرأة حقوقها المشروعة والمساواة وإلغاء كافة القوانين الظالمة بحقها.
في الوضع الوطني، لا بد من التأكيد أن العدو الصهيوني المحتل لا يمكن أن يتراجع وينسحب إلا بالقتال والمقاومة ،وبعض التغير الذي طرأ على منطقه حول الانسحاب من الجنوب ما كان ليحصل لولا المقاومة والمواجهة المفتوحة ضده .وعندما اجتاح العدو لبنان في العام 1982 كان في نيته البقاء لفترة طويلة وفرض إرادته السياسية على لبنان وتكريس اتفاق 17 أيار وتنفيذه ،غير أن المقاومة السريعة والفاعلة أجبرته على التراجع عن معظم الأراضي اللبنانية وأسقطت 17 أيار وأخرجت القوات المتعددة الجنسيات من لبنان بدعم فاعل من سوريا ومن الاتحاد السوفياتي في ذلك الوقت .واليوم ومع استمرار المقاومة وتحقيقها انتصارات مؤثرة سيضطر العدو عاجلا أم آجلا للانسحاب دون شروط ،كما حصل في منطقة جزين .وقد يسعى العدو مع كل خطوة انسحاب قسرية إلى محاولة الاستفادة منها عبر تصعيد عسكري وخلق توترات أمنية وإرباك المقاومة والضغط على الدولة ومحاولة تصديع تلازم وحدة المسار اللبناني-السوري وصولا لفرض التفاوض حول ترتيبات أمنية .غير أن صمود الشعب وتصعيد المقاومة افشلا مشروعه المعادي وفرضا عليه انسحابا غير مشروط وهذا الأمر سيتكرر حتى يتحقق الانسحاب الكامل من كل الأراضي المحتلة دون قيد أو شرط.
إن الحديث عن سياسة جديدة لباراك تختلف عن سياسة نتنياهو ليس إلا وهما أو خطأ سياسيا ،لأن القيادة الإسرائيلية تنفذ سياستها المعادية كجزء من الاستراتيجية الإمبريالية في العالم .لذلك ليس هناك تنازلات إسرائيلية أو أميركية طوعية ،بل ما يفرض عليهما بالمقاومة والقتال والصمود .ورغم الخلل في موازين القوى الدولية والمحلية تبقى إمكانية مقاومة البرنامج الإمبريالي-الصهيوني قائمة وقادرة على تغيير المعطيات والظروف بحدود معينة ،وعلى الأقل إمكانية تعطيل عملية التسوية والاستسلام مرحليا. وقد شهدنا مؤخرا فصلا جديدا من سياسة الضغط الأمريكية عبر زيارة أولبرايت إلى لبنان التي سعت إلى إملاء الشروط الإمبريالية-الصهيونية الهادفة إلى وقف المقاومة ضد الاحتلال وفصل المسارين اللبناني-السوري لاستفراد كل منهما على حدة ومحاولة توتير الوضع الداخلي عبر المطالبة الأمريكية بمحاكمة المناضلين والوطنيين الذين شاركوا في مقاتلة الاحتلال الصهيوني والقوات المتعددة الجنسيات.
لذلك من الضروري التمسك بالموقف النضالي وبالمواجهة ضد العدو الصهيوني وبصمود شعبنا وتعزيز وحدته الوطنية باستكمال عودة المهجرين ،ودعم المقاومة وتطويرها بانخراط كافة القوى التقدمية والوطنية وحشد كافة الإمكانيات في هذه المعركة، والعمل الجاد رسميا وشعبيا من أجل تحرير الأسرى والمعتقلين من سجون العدو. إن الموقف الرسمي من المقاومة موقف مهم على الصعيد الدولي والعربي والمحلي وإن لم يترجم في مجال دعم المقاومة ولكن ذلك من شأنه خلق مناخ شعبي متضامن ومؤيد لخيار وأسلوب المقاومة .
من هنا أهمية التنسيق والمواجهة المشتركة بين لبنان وسوريا ضد العدو الصهيوني لإتاحة الفرصة أمام إمكانيات الصمود والمواجهة التي يمكن أن تعدل في موازين القوى وأن تصبح فيما بعد معرقلة لمسيرة التسوية الاستسلامية .إن هذه التوجهات هي الضامنة الحقيقية لإفشال مخطط التوطين وتضع كافة الإمكانيات إلى جانب الشعب العربي الفلسطيني في نضاله المستمر من أجل العودة وحق تقرير المصير مع ضرورة إعطائه كل الحقوق المدنية والاجتماعية والإنسانية المحقة والمشروعة