بقلم الرفيق فيليب
كنا ننتظرالمسير لرحلةٍ بدأت ملامحها بالتكوّن منذ وقت مضى. كنا نأمل بالانعتاق من قيودٍ كبّلت أرواحنا وأزهقت رياحين شباب كانت دماؤه تغلي كالبركان. إلتقينا أنتَ وأنا مع آخرين كُثر جاؤوا مثلنا غاضبين ناقمين عزموا على ركوب العاصفة ورسم أنفسهم من جديد. دهمنا قمرُ نيسان في ليلة كان البرد فيها يلسعنا كأسواطٍ من حديد. أفصحتَ لي عن نفسك في وقت كنا لا نزال نعتمد السرية والحذر. كنّا منهكين نريد أن ننام بعد ثلاث ليالٍ من سهرٍ وحفْرٍ في صخور أبت أن ترحمنا. كان الرعد يصم الآذان ويدفعنا الى الإلتجاءِ بحفرٍ احتلتها الامطار وحاصرتها الصّواعق من كلِ مكان. لم نستطع النوم فهممنا لنشرب شاياً أسوداً لندفئ فرائصنا فكان مثل حبْل خلاصنا.
رُحتَ تغسلُ اكواباً فتجّمد الدم في أصابعك فأصبحت كأسنان معاول كانت تُعيننا في البحث عن جذور أشجار الزعرور وشرايين الارض. لم نكن وقتها ندرك سرّ الزعرور وفوائده في مكافحة أمراضٍ سرطانية راحت تتفشّى في جسدِ وطنٍ لا يملك مناعةً من الانهيار. ورويداً بدأتْ تذهبُ تلابيب ليلٍ طويل فبانت لنا تضاريس أرضٍ تعدّدتْ ألوانها وطبقاتها فُرشت فوقها أشجار كرز وتفاح وانتشرت بينها بيوتٌ صغيرةٌ إنزوت على هضابٍ رسمت معاول الفلاحين عليها أثاراً وأقاليم فبدت كأخاديد رجل مُسنْ.
رحنا َنقْلبُ التراب لنختبئ من وميضٍ يكشف أسرارنا قبل أن نضيء شمعة بين حبات زيتون مبعثرة بجانب كوفية من الصوف تقي من البرد وتعلن هوية. عجباً كيف أن بعضهم كان يشكو من الملل. فأمامهم إنفتح أُفق بنفسجيٌ يميل ألى الأحمر وأنينٌ يطوف فيُغرق بصرهم بحكاياتِ جوع وقهر…. وظلام. أكان هذا مللٌ أم عِلل أم كلل أو شَللْ؟ كان عثمان يغني للشيخ الضرير وعلي يقرأ الخطتان وعماد ينصب (سياخ) الدبق لغربان ستأتي لا محالة. أي ملل؟ كنا نعجب ولم نزل.
حبسنا أنفاسنا عندما رحنا نفتش عن مكان نزرع فيه شجرة رمان. تهنا في عتمةِ المكان حتى تغلبنا على ذئب كان ينهش لحم فرسٍ أصيل وأدركَنا طائرٌ اسود فإلتجأنا إلى خربةٍ أفرغت النار أحشاءها فبدت كوحش مقتول. بتنا نبحث عن راعي بسكنتا لأنك لم تأمن له منذ قدومه إلينا وكنت مصيباً كما شَهِدتْ بذلك دماء فؤاد ووجيه التي روت سواقي صنين وينابيعه. الآن ندرك سر هذه الجبال الشامخة وتلك الصخور الباردة فقد حاكت ثياب هؤلاء ملائكة الرحمن.
كان لنا أياماً طيبةً بين زعرورصنين وثلوجه عندما عقدنا الأمل على الوصول إلى مخيمٍ محاصر ورحنا نحصي شُهبَ السماء التي هَالتهَا أخبار إقتلاع ضلاع الزعتر والزوفا. إنتظروا طيور الأبابيل وإنتظرونا ولم يأتِ أحد. كان هناك وعداً بأن نصل الى الزعتر قبل أن يُجزّ ويُقطع فحملنا له حبنا وورداً احمر وبرتقال. هل بدأ منذئذٍ حبنا للزعتر فرُحنا من بعدها نبحث في هضابِ كنيسةٍ مجوسيةٍ عن زعترٍ بريٍ يشرب من الشمس؟ صرنا نحب الزعتر وتلال تُفترشُ بالزعتر. هل مات رفيقنا الحمار صابر أم إنتحر؟ هل يأس لأن مراكبنا لم تعبر الحلم ورُدت على أعقابها؟ كم حزِنّا على صابر عندما غادرنا بدون وداع وتركنا عطشى على أميالٍ وعرة من نبعٍ يرشح صحة كان ينقلها لنا بدون جميل. أقمنا له العزاء ورددنا له الصلوات والأدعية وبنينا له ضريحاً يُشرف على لامارتين كي يصبحَ خالداً مثله. لم نسأل أنفسنا لماذا كنا نقوم بذلك، هل كنا ندفن أحلامنا؟
كم كانت أحلامنا كبيرة عندما هزّتها أصوات برتقالية راحت تومض بين زواريب ديارنا وأدغال الصنوبر. كانت أولى مواجهاتنا مع العجز والاعتكاف ثم التأمل. قلتَ لي إن كتاب البحر يتغيّر فحُفرت عبارتك هذه في وجداني وأضاءت شمعة في ظلامٍ أرخى أثقاله علينا. ورحنا نراقب موج البحر وإكتمال القمر.
كم كانت معبّرِة لكن أليمة أمنياتٌ كررّها محمد اليمني بأن يُوّليه كورت فالدهايم ولاية العرب ليومٍ واحدٍ فقط حتى يتسنى له تنفيذ خطبة الحجاج بن يوسف في بغداد. وكم مرةً إحتمينا بأغاني الشيخ الضرير للتعويض عن رعشة لم تعمر طويلاً ولكي تبقى جذوة الأمل متّقدة. ومراراً عبرّت أشعار النوّاب عن صمتنا وقهرنا. لكن لم تطل كثيراً فترة المخاض هذه فعدنا إلى شرنقتنا الأولى في دار التنوخيين حيث لنا رفاق وأصدقاء وبساطةٌ في العيش ( لرَبْع ) تشعر بدفء عميق حولهم وربما كان هذا ما أغراك أن تنام هناك وتَشْهَد.
غالباً كنا نرتشف القهوة مع ( أبو العف ) من ركوةٍ دارت فناجينها على الرعيل الاول، مزيد وفريد ونزيه. رحنا نتعرّف على المكان، نقصد معاصر الزيتون و( نَجُمُّ ) ورق التوت لأنوال حرائرنا. والى الشرق منها إرتفع جبلٌ شهِد حكايات كثيرة دارت رُحاها على سفوحه. وإلى الغرب وِهادٌ التحفت بالزيتون والصنوبر حيث هجنا بها مرّات ومرّات. وإلى جنوبها بقاعٌ راقَ لحبنجر أن يُقيم فيها مرقداً وسَمحَ لنا أن نَقوى على رعب القبور. مشينا وراء سلاحف وفراشات كثيرة حتى إعتلينا الى قمةٍ تفرض هيبتها على ما حولها. جلسنا على صخرةٍ مشرفةٍ نراقب كيف تغوص الشمس في الازرق ننتظر قمراً راح يحتل روعة المكان ويعكس أنواره على صفصافةٍ بدت كأنها ترسل إشارات برقية. دُهشنا كم كان القمر متألقاً في تلك الليلة، راقداً على فضاء فسيح ومختلفاً عن تجليّاتٍ سابقة. بدا واثقاً من نفسه، تُشع أنواره على هضاب الشحّار وبؤرِ الفحم فيها. إلتبس الاسم علينا فتساءلنا عن سر تحوّله هذا. هل هو المكان أم كان الزمان؟ شبّهته بكَ فضحكت مثل الاطفال وقلتَ لي لندعيه قمر الشحّار. كم كانت رائعة تلك الليلة وكم كانت صعبة طريق هبوطنا من تلّتنا الطائرة هذه.
ذهبنا بعدها نبحث عن مساحةٍ نُقيم فيها عيداً للبواريد. اكتشفتُ لحظةً حميمةً في ثنايا روحينا وحباً للجبال. كنا نقرأ في كتابٍ إستعرناه من خزانة إمرأة حالمة زوبعت رياحها في زوايا كوكبنا. رحلنا بعيداً في سر الالوان ورسمنا شاطئاً ترسوا مراكبنا عليه يوماً. تخّيلنا عالماً لا يسكنه إلا الغجر. كم كانت جميلة أحلامنا هذه وكم طال تحديقنا في وزّالة داعبها هواء الباروك. سُحرنا بألوانها وبرائحة طيون أحاطها وسبحت أنظارنا الى شاطئ جزيرة بدت كنقطةٍ سوداء في غيمِ البحر. رأينا صيدا وكروم الجليل وبتنا نُبحر في سر المكان. إستعدنا العامية، وامبراطور فرنسا، وجزّارعكا، وقارَبْنا التنوخي وعلومه، فسرى نسيم ذكريات دافئة ورائحة تراب كيوم ممطر من أيلول. كم مرّت على صخور هذا المكان من أفاعٍ وبَقيت تنعم بفيء وتهِب أماناً وسكوناً لقلوبٍ حائرة تعشق؟.
راقبتُ غضب عينيك عندما أتى خسيساً مدّعياً أنه هاشمياً لكنه هشّم الربى وأقام الحد على تلّتنا وأباح لذئابٍ أن تفتك بغزلانٍ وهو يراقب دياراً تحترق كشارون عندما أحرق بيروت.
كم سَخرنا من ذاك الرفيق الذي كان يلعن جمهورية الموز من فتحةِ قنينة ( الفودكا ) وذلك الذي كان يدير لقاءاتنا كأنه بائعاً للألبان يحوّق نفذة هنا ويبحبح النعنع في اللبنة ليصرف أنظارنا عن الأساس المادي للنذالة. كم حذّرَنا الأول من مرض طفولي فلم يطل الأمر حتى بدت عوارض المرض نفسه على محياه فكان مصاباً به حتى النخاع. كان يدّعي العفة ويحاضر في الشرف فيختبئ بين جدران أزمة ضميره الغائب. لكنه كعادته هجر القافلة تاركاً لنا طفولة بريئة كزهر اللوز وإحتفظ بالمرض. وراح يتشدق بجرذانٍ إنطلقت تَنخَرُ في سد مأرب وتقتات من نفايات أنطاكيا.
علّمتني أن للقمر وشائج وصلات مع أمواج البحر ومزاجنا. حدّثتني مراراّ عن المد والجزر والنقد الذاتي فطلبنا من ضابط اليرموك أن يسمح بالنقد حتى نتعلم أصول الفقه الثوري والطهارة الاخلاقية. ثم ضحكنا لبراءة كزهر اللوز وكنسمةٍ باردةٍ في الربع الخالي. كنت عنيداً مقداماً وأمينا لفكر أضاء كهوف زماننا. لم أستطع أن أبكيك في حينه لأنه كان عليّ أن أُشيحَ دموعاً كي لا تظهر على وجهٍ أنهكته ليالٍ طويلة ونظرات كانت تخشى هزيمة. لكن أمطاراً غزيرة كانت تهطل في داخلي لأننا لن نستطيع بعد ذلك اليوم أن نجلس سوياً وننظر إلى الافق، نبتهل الى البدر ونستبيح اسرارنا. لكنك رسمت قناديل لطريق سيبقى علينا أن نعبرها. لم أستطع أن أرى أُمك الثكلى وأنظر إلى عينيها لتسألني عنك. إنهرتُ عندما رأيتُها بعد غياب وأفاضت دموعي بالإعتذار. أعجبتها فكرة هانوي الجبل فراحت ترسل لنا حمَاماً يحمل صلواتها وسلال التين. أثارت هِمماً كثيرة فأتوا بمعاول حفرت سراديب بين سنديان وأقاموا قباباً أذابت حمم هولاكو. ها هو القمر يا رفيقي يعود في ذكراك كاملاً مكملاً يَعِد بمدٍ جارف فبدأ الحصّادون بشحذ مناجلهم فهم لا يزالون على العهدِ وما بدلوا تبديلا.