بقلم مـحـمـد حشـيـشـو
عضو المكتب السياسي للحزب الديمقراطي الشعبي
نظرتان تتنازعان القوى السياسية وخاصة من اهل اليسار، في النظر الى الوضع اللبناني في ظل تعقيداته السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
الاولى ترى ان للقضية السياسية الاولوية المطلقة، وبالتالي يجب تركيز الجهود بها دون غيرها من القضايا، لا بل تعتبر ان اي جهد يوظف في قضية اخرى هو تبديد للطاقات وتضييع للوقت وتشتيت للامكانات.
بينما تقلل الثانية من اهمية القضية السياسية، وان القضية الاقتصادية والاجتماعية هي القضية التي يجب ان تطغى على ما عداها.
والرأيان على ما يحملان من جوانب الصواب الا انهما يبقيان يعبران عن قصور في فهم الواقع وطبيعة الصراع. فالقضية الوطنية الام هي قضية تحرر وطني، ينعقد فيها الصراع السياسي والاجتماعي ليرسما معا افق التغيير الثوري.
فاي مواجهة للمشروع الامبريالي الاميركي ـ الصهيوني هو في الوقت عينه مواجهة للطبقة الحاكمة من موقع تبعيتها السياسية والطبقية للنظام الرأسمالي العالمي، والعكس صحيح، فتقويض النظام البرجوازي الطائفي من موقع الطبقة العاملة وفكرها الثوري هو ضرب لركيزة من ركائز المشروع الامبريالي. فالمشروع الاستعماري الجديد جدد اندفاعته العدوانية للنهب والسيطرة بشكلها الفاشي ضد الشعوب الفقيرة مستفيدا من الاختلال الحاد في موازين القوى لمصلحة الامبريالية العالمية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، مستندا الى مجموعة واسعة من الانظمة التابعة والمرتبط وجودها بتوسع السيطرة الامبريالية وترسخها، وقمع الشعوب وضرب حركات التحرر الوطني.
وتستند الولايات المتحدة الاميركية في استهدافها لمنطقتنا العربية على الكيان الصهيوني، ولهذه القاعدة العسكرية العدوانية المتقدمة للامبريالية والتي اقيمت في فلسطين دور وظيفي تحدد بمنع التوحد العربي، واعاقة التنمية الحقيقية
لذلك فانجاز التحرر الوطني الكامل لن يتحقق الا بترابط التحرر السياسي والاجتماعي وذلك بازالة العوائق السياسية والطائفية والثقافية والاجتماعية التي تحول دونه وليس الدوران حولها، فمهمتنا ليس التفسير بل التغيير، والتغيير لا يتم الا بعد فهم الواقع علميا لحشد القوى الطبقية صاحبة المصلحة الحقيقية بالتغيير.
فبلدان العالم الثالث قاطبة وعلى مدى القرن الماضي انجزت تحررها الاجتماعي “نسبيا” بعد ازالة الاستعمار القديم وضرب البنى الاقطاعية التي استند اليها المستعمر، ويبقى ان طبيعة النظام الذي قام على انقاضه مرتبط بقيادة حركة التحرر الوطني التي انجزت تلك المرحلة، اذ لا يمكن لحركة تحرر ان توصل النضال الى نهاياته الحاسمة الا اذا توفرت لها قيادة ثورية، وتحديدا شيوعية، ذات برنامج تغيير جذري، والتجارب في هذا المجال واضحة للعيان.
وبالانتقال الى الوضع اللبناني نرى تاريخيا هذا الارتباط بين الوطني والطبقي، فتفجر الحرب الاهلية في العام 1975 كان نتيجة تصاعد منسوب النضال الاجتماعي (عمال، فلاحين، طلاب، معلمين) والضغط السياسي لاجراء اصلاحات في بنية النظام واهتزاز ركائز النظام السياسي البرجوازي الطائفي، وفي الموازاة كانت النضالات الوطنية والغضب الشعبي من موقف السلطة تجاه الاعتداءات الصهيونية اليومية على لبنان، وموقفها المعادي للثورة الفلسطينية المسلحة، كل ذلك ادى الى اهتزاز ركائز النظام السياسي البرجوازي الطائفي، فكان التوجه الامبريالي ـ الصهيوني تفجير الصراع المسلح لاضعاف قوى التغيير والمقاومة وحرف النضال عن وجهته الصحيحة بإلباسه لبوسا طائفيا.
وهذا ما سعى اليه الاجتياح الصهيوني العام 19982: ضرب الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية بعد ان عجزت الحرب الاهلية عن تحقيق ذلك، وتنصيب سلطة عميلة للاحتلال تربط لبنان نهائيا بالمشروع الصهيوني عبر اتفاق 17 ايار. ومن المعلوم كيف سارت التطورات لاحقا من افشال اهداف الغزو وطرد الاحتلال تدريجيا عبر المقاومة من قيد او شرط، وصولا الى اتفاق الطائف الذي انجز وقف الحرب ونقل لبنان الى مرحلة السلمغير الناجز.
هذه الوقائع تقودنا للتأكيد على ان تغييب المشروع التغييري الثوري لبنية النظام، وفك ارتباط هذا المشروع عن القضية الوطنية، وفي ظل قيادة برجوازية (وطنية) للصراع مستعدة بطبيعتها الطبقية للمساومة من اجل مصالحها على حساب مصالح الجماهير الشعبية، وتخلي القوى اليسارية الثورية عن التصدي لدورها التاريخي في قيادة نضال المقاومة وفرض البرنامج الثوري، كل ذلك ادى الى صفقة لتقاسم السلطة بين قوى المعسكرين ذات التمثيل الطائفي، وقضت هذه الصفقة بضرب اليسار وتهميشه، احزابا وقوى ومؤسسات ديمقراطية ونقابية واجتماعية.
وفي المقابل تعيش القوى التي تصدت لقيادة النضال الوطني في السنوات الاخيرة (المعارضة الوطنية) للمأزق نفسه، فتغييب القضية الاجتماعية عن جدول اعمالها سيضعها في لحظة معينة في مواجهة جماهيرها والتي هي في اغلبها جماهير فقيرة، مستعدة لدعم المقاومة واحتضانها دون تردد، والتضحية من اجل كرامتها الوطنية، الا انها في المقابل تحتاج لمقومات الصمود والاستمرار والحياة، بعد ان امعنت السلطة في التدمير المنهجي لبنى الاقتصاد اللبناني وخاصة في مجالات الصناعة والزراعة.
ونصل من هنا الى التأكيد على ضرورة قيام تحالف وطني ـ طبقي يجمع في صفوفه القوى المتضررة من تبعية النظام البرجوازي وخضوعه لإملاءات مؤسسات العولمة الامبريالية وشروطها المدمرة للبنية الاقتصادية والاجتماعية للبنان، تحالف يضع برنامجا للتغيير الجذري لاسس انبناء النظام، وينخرط في خيار المقاومة الشاملة وخاصة المسلحة للمشروع الاميركي ـ الصهيوني، تحالف تقوده قوى اليسار الحاسمة في خياراتها وتوجهاتها السياسية والاجتماعية.
ان مقاومة العدوان والاحتلال بالمقاومة وفرض الهزيمة على العدو وعدم تمكينه من تحقيق اهدافه، سيضعف القوى الطبقية الحاكمة المستقوية بالعامل الخارجي وخاصة الاميركي، ما يمنعها من تلبية شروطه، وبالتالي حرمانها دعمه، اذ ان الامبريالية ليست جمعية خيرية لتقديم المساعدة دون مقابل، وهذا يمكن قوى التغيير من تشديد هجومها انجاز مهامها التاريخية الوطنية والاجتماعية.